(
ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ) .
اعلم أن هذه الآية قاعدة من قواعد القتال الذي نزلت أهم قواعده وأحكامه في هذه السورة والتي قبلها ، وإنما وضعت هاهنا على سنة القرآن في تفريق الموضوع الواحد الكثير الأحكام في مواضع متفرقة ، وبينا حكمته آنفا عودا على بدء .
(
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) أي الذين يدنون منكم وتتصل بلادهم ببلادكم ; وذلك أن
القتال شرع لتأمين الدعوة إلى الإسلام وحرية الدين والدفاع عن أهله ، وقد كانت الدعوة إلى الأقرب فالأقرب من الكفار كما قال تعالى لرسوله : (
لتنذر أم القرى ومن حولها ) ( 42 : 7 ) وقال
لأهل مكة (
وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) ( 6 : 19 ) أي وكل من بلغته دعوته بل أمره أن يخص الأقرب إليه في النسب من أهل بلده
أم القرى فقال : (
وأنذر عشيرتك الأقربين ) ( 26 : 214 ) .
أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
ابن زيد في الآية قال : كان الذين يلونه من الكفار العرب فقاتلهم حتى فرغ منهم . وعن
قتادة قال : الأدنى فالأدنى . وأخرج
ابن مردويه عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر : أنه سئل عن غزو الديلم فقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) قال ( ( الروم ) ) ا هـ . يعني أن
الروم هم المراد بالكفار في الآية لأنهم كانوا عند نزولها في هذه السورة بعد الفراغ من أمر
يهود المدينة وخيبرهم الذين يلونهم في
تبوك وسائر بلاد
الشام .
وترجيح
البدء بالأقرب فالأقرب معقول من وجوه كثيرة كالحاجة والإمكان والسهولة والنفقة ، ولذلك كانت القاعدة فيه عامة في الدعوة والقتال والنفقات والصدقات ، وكذا ما يدار في المجلس ونحوه فكان - صلى الله عليه وسلم - يعطي من على يمينه وإن لم يكن أفضل الجالسين ثم الذي يليه فالذي يليه . وأمر بأن يأكل الإنسان مما يليه . وإنما تطرد القاعدة
[ ص: 66 ] في الحالة العادية . وأما ما يعرض من ضرورة في كل ذلك فله حكمه فأحكام الضرورات مستثناة في الواجبات والمحرمات والآداب . (
وليجدوا فيكم غلظة ) أي وليجدوا فيكم شدة وخشونة في القتال ومتعلقاته كما تقدم في تفسير آية (
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) ( 73 ج 10 )
والغلظة على المقاتلين في زمن الحرب من مقتضيات الطبيعة والمصلحة ، وتنكيرها في الآية يدل على أن لأولي الأمر أن يحددوها في كل زمن وكل حال بما يتفق مع المصلحة ، وإنما أمروا بها على كونها طبيعية لتقييد ما أمروا به في الأحوال العامة من الرفق والعدل والبر في معاملة الكفار حتى صار ذلك من أخلاق الإسلام ،
وأمر القتال مبني على الشدة والغلظة في كل الأمم ، وقد حرم فظائعها الإسلام كما تقدم في تفسير سورة الأنفال ، وقد بلغت فظائعها عند الإفرنج في هذا العصر ما يخشى أن يفضي إلى تدمير العمران كله (
واعلموا أن الله مع المتقين ) له في مراعاة أحكامه وسننه بالمعونة والنصر ، وأهمها ما يجب اتقاؤه في الحرب ، من التقصير في
أسباب النصر والغلب التي بينها في كتابه ، والتي تعرف بالعلم والتجارب ، كإعداد ما يستطاع من قوة ، والصبر والثبات ، والطاعة والنظام ، وترك التنازع والاختلاف ، وكثرة ذكر الله ، والتوكل عليه فيما وراء الأسباب ، وقد بينا حقيقة معنى التقوى وأنواعها واختلاف المراد منها باختلاف مواضعها في تفسير ( 8 : 29 ص 538 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) .