( الفصل الثاني )
( في
المنافقين وصفاتهم وأعمالهم وسياسة الإسلام فيهم )
النفاق خلق رديء ووصف خبيث تتلوث به الأنفس الدنيئة الفاسدة الفطرة ، فلا يرى أهلها وسيلة إلى مطامعهم في المال ومطامحهم إلى الجاه إلا الكذب ، والرياء ، ولقاء الناس بالوجوه المختلفة ، والتصنع ، والخداع ، ولين القول ، كما قال تعالى فيهم : (
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ) ( 63 : 4 ) وهم يوجدون في كل شعب وكل قبيلة ، لا تخلو منهم بادية ولا حاضرة ،
والنفاق قسمان : خاص وعام ، فالخاص : هو الشخصي الذي يحاول صاحبه لقاء كل أحد مما يرضيه عنه ويحببه إليه ولا سيما الحكام وأصحاب الجاه والمناصب والثراء الذين يرجى الانتفاع منهم أو يخشى ضرهم ، فهو يلبس للصالحين منهم لباس التقوى
[ ص: 110 ] والصلاح ، ويخلع للفساق جلباب الحياء ، ويفرغ على المستكبرين حلل الإطراء ، وهو أهون المنافقين .
وأما النفاق العام فهو ما يكون في الدين والدولة ، وخيانة الأمة والملة ، وما وجد النفاق في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد الهجرة ، لما صار للإسلام قوة الدولة ، إذ أسلم أكثر
الأنصار بظهور نور هذا الدين القويم لهم ، ولم يكن لهم مصلحة دنيوية تحجب هذا النور عن بصائرهم ، أو تحملهم على مكابرة الحق وجحوده ، ككبراء
قريش المغرورين بثروتهم الواسعة ، وجاههم في العرب بسدانة
البيت الحرام ، واستكبارهم على سائر الناس ، وإسرافهم في التمتع بالسكر والزنا وأكل الربا والشهوات ، فكانوا يرون أن الإسلام يساوي بينهم وبين سائر الناس في جميع الحقوق ، ويفضل الفقير المتقي لله تعالى على الغني المسرف في الفسوق ، ويقتص للسوقة من الأمراء والملوك ، ويحقر المتكبرين ، ويكرم المتواضعين ، ويزدري الظالمين والفاسقين ، فيسلبهم بهذا جميع ما يمتازون به على دهماء الناس ، ولهذا كان أكثر من اهتدى به في
مكة الفقراء وبعض أصحاب الفطرة السليمة والعقول الحرة من الطبقة الوسطى ، وكان أعلاهم فطرة وأزكاهم نفسا
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق ، وسائر العشرة الكرام المبشرين بالجنة .
آمن بعض
الأوس والخزرج أولا بلقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في موسم الحج ، ودعوا قومهم إلى الإسلام بعد عودتهم إلى
المدينة فصادفت دعوتهم رواجا لقوة المقتضي وهو التوحيد وفضائل الإسلام ، فلما كثروا هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم إذ عاهده نقباؤهم في
منى على نصره ومنعه ( أي حمايته والذب عنه ) مما يمنعون أنفسهم وأهليهم ، ومن المعقول أن يكون نور الإسلام لم يظهر لكل فرد منهم على سواء ، وأن يكون منهم من اضطر إلى الدخول فيما دخل فيه قومهم مواتاة لهم ، مع عدم وجود نظام لديانتهم الوثنية يرتبط به بعضهم ببعض فيقيمونه ويذبون عنه ، فكان منافقو
المدينة من هؤلاء وممن حولهم من قبائل الأعراب الذين لم يعقلوا الإسلام كأسد وغطفان .
وكان هنالك يهود كثيرون يقيم أكثرهم في حصون لهم بالقرب من
المدينة كبني قريظة وبني النضير ، وقد عاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على حريتهم في دينهم وأنفسهم وأموالهم ، ولكنهم كانوا ينقضون عهده ويظاهرون عليه المشركين كلما جاءوا لقتاله ، بل كانوا يغرونهم ويحرضونهم عليه ، فكانوا في إظهار الوفاء بعهده منافقين ، وكان لهم أحلاف من عرب
المدينة ، فحافظ على مودتهم منافقوها بالسر كما بينا ذلك كله في محله .
فكانت سياسة الإسلام في الفريقين أن من أظهر الإسلام يعامل كما يعامل سائر المسلمين ،
[ ص: 111 ] لأن قاعدة الإسلام أن الحكم على الظواهر ، وأن الله تعالى وحده هو الذي يحاسب ، ويعاقب على السرائر ، وأن من حافظ على الوفاء بعهده من
أهل الكتاب يوفى له ، وكان
اليهود ينقضون عهدهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا ظهر شيء من خيانتهم وغدرهم اعتذروا عنه ، حتى إذا ما افتضح أمرهم حاربهم - صلى الله عليه وسلم - وأجلاهم عن البلاد ، كما ترى في تفسير الآيات ( 55 - 58 ) من سورة الأنفال ( 42 - 52 ج 10 ط الهيئة ) .
وقد قص الله علينا في سورة الحشر ما كان بين
اليهود والمنافقين من الإخاء والولاء ، وأنه لا خير فيه لأحد منهما ، على أن
اليهود ظاهروا المشركين على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن المنافقين لم يفوا
لليهود بما وعدوهم به من نصرهم إذا هم أظهروا عداوتهم ; لأن المنافق القح دون المتدين الكافر همة وشرفا وخلقا . قال تعالى : (
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون ) ( 59 : 11 و 12 ) .
كان سبب معاهدة النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود وإقراره إياهم على دينهم أن الإسلام دين حرية وعدل ، ودعوته قائمة على البرهان والحجة ، ولذلك منع المسلمين من أخذ أولادهم الذين تهودوا وانضموا إلى
اليهود بالقوة ، وأمرهم بأن يخيروهم إذ نزل فيهم قوله تعالى : (
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ( 2 : 256 ) .
وقد تقدم أن
سبب معاملة المنافقين بظاهر إسلامهم هو أن أمر السرائر لله وحده ، فهو الذي يعلمها ، وهو الذي يجازي عليها ، ولا يباح لحاكم ولا لنبي أن يحكم على إنسان بأنه يسر الكفر في نفسه ولا أن يتهمه بذلك ويعاقبه عليه ، ولا يثبت الكفر على من ظاهره الإسلام إلا بإقرار صريح منه ، أو صدور قول أو فعل يدل عليه دلالة قطعية لا تحتمل التأويل كتكذيب القرآن أو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو جحود كونه خاتم النبيين لا نبي بعده ; والشرك بالله بدعاء غيره ، وغير ذلك مما هو مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة لا يقبل فيه تأويل ، كجحود فرضية الصلاة والزكاة والصيام والحج ، أو استحلال الزنى والربا وشرب الخمر .
وأما حكمة ذلك وفائدته فهي أن
من يلتزم شعائر الإسلام وأحكامه ولو بغير إيمان يقيني فإنه يرجى له - بطول العمل - أن ينشرح صدره للإيمان ويطمئن به قلبه ، ويوقن به عقله ، وإلا كانت استفادته وإفادته للأمة دنيوية فقط .
( فإن قيل ) إن مقتضى
حرية الدين التي امتاز بها الإسلام في معاملة أهل الكتاب - إذ
[ ص: 112 ] أقرهم على العمل بدينهم حتى فيما بين لهم أنهم خالفوا فيه ما جاء به رسلهم - أن يسمح للمنافقين بأن يظهروا كفرهم ( قلنا ) إن الجمع بين إظهار كفرهم وحسبانهم من المسلمين ، لهم ما لهم من الحقوق وليس عليهم ما عليهم من الواجبات . تناقض لا يقول به عاقل ، ولا يحكم به عادل ، ومثلهم فيه كمثل من يسمح له بحقوق الجنسية السياسية الوطنية ولا يطالب بالخضوع لقوانينها ، ولا يعاقب على انتهاكها ومخالفة أحكامها ، وإنما تكون حرية الدين المعقولة لأهله في دائرة محيطه بألا يحاسب أحدهم أحدا على عقيدته ووجدانه فيه ، ولا اجتهاده في فهمه ، إلا من طريق البحث العلمي ، وليس منها أن يخالف أصوله القطعية التي لا يكون المسلم مسلما بدونها ويعد مع ذلك مسلما ، إذا ليس لأحد أن يطالب حكومته المتدينة بالسماح له بالخروج على دينها ، كما لا يصح له أن يطالبها بالسماح له بالخروج على قوانينها ، فتكون حريته هنا متعارضة مع حريتها هي وحرية أمتها .
( فإن قيل ) إن القرآن قد فضح بعض المنافقين في هذه السورة وحكم بكفرهم ، ولم ينفذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم أحكام المرتدين عن الإسلام ، بل بقي يعاملهم هو وأصحابه معاملة المسلمين ( قلنا ) إن ما بينه الله تعالى من حال المنافقين إنما كان وصفا لأناس غير معينين بأشخاصهم ، إنذارا وزجرا لهم ليعرفوا حقيقة حالهم ، ويخشوا سوء مآلهم ، عسى أن يتوب المستعدون للتوبة منهم ، وقد تاب الكثيرون منهم ، بما يظهر لهم من إخبار القرآن عنهم ، بما لا يعلمه إلا الله تعالى من أمرهم .
وكان الذين عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه أشخاصهم - قليلين جدا ، كالذين هموا باغتياله - صلى الله عليه وسلم - بتشريد راحلته في عقبة في الطريق - منصرفهم من تبوك - ليطرحوه منها ، وقال بعضهم لبعض : لئن كان
محمد صادقا لنحن شر من الحمير ، وفيهم نزل (
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ) ( 9 : 74 ) ولما استأمره أصحابه بقتلهم قال : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920447أكره أن يتحدث الناس ويقولوا إن محمدا قد وضع يده في أصحابه ) ) أي في رقابهم بقتلهم ، وهذا أكبر منفر عن الإيمان ; فإن كثيرا من الناس كان يستحسن هذا الدين ويفضله على ما كانوا عليه من الشرك في أحكامه وآدابه لذاتها ، قبل أن تقوم عندهم الحجة على اليقين بكونه وحيا من الله تعالى ، فيدخلون فيه ، ثم بعد زمن قليل أو كثير من معرفته التفصيلية تطمئن قلوبهم بالإيمان اليقيني ، ومنهم من كان يدخل فيه تبعا لأكثر قومه من غير نظر إلى تفضيله لقلة علمه بدعوته ، وكل هؤلاء يقبل إسلامهم ويعتد به شرعا ، وفيهم نزل قوله تعالى من سورة الحجرات : (
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ) ( 49 : 14 ) ولو سمع أمثال هؤلاء أن النبي صلى الله عليه
[ ص: 113 ] وسلم يقتل بعض من اتبعه وصحبه لظهور شيء يدل على عدم إيمانهم في الباطن ، أو لإعلام الله تعالى إياه بما في قلوبهم ، لنفروا من الإسلام وخافوا عاقبة الدخول فيه .
وثم مفسدة أخرى في هذه الإشاعة وهي أن المنافقين والكفار يذيعون فيها ما شاءوا من التهم الباطلة والإفك المفترى ، كزعمهم أنه إنما قتل من ظهر لهم منه ما دلهم على بطلان دينه بعد أن صدقوه وجاهدوا معه .
على أن الله تعالى قال فيهم بعد وصفهم بالكفر بالقول وبالهم بشر نتائجه من الفعل (
فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة ) ( 9 : 74 ) . الآية ، فيراجع تفسير الآية وما قبلها من الأمر بجهاد الكفار والمنافقين في ( ص 473 - 481 ج 10 ط الهيئة ) .
ويلي هذا في السورة خبر الذي عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن ( في الآيات 75 - 77 ) وما رووا في سبب نزولها خاصة وأنه شخص يقال له
ثعلبة ، وأنه بعد أن نزلت فيه الآيات تاب وأراد أن يؤدي زكاة ماله فلم يقبلها منه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لم يقبلها منه
أبو بكر ولا
عمر ولا
عثمان من بعده ، وأنه هلك في خلافة عثمان . وقد بينا في تفسيرها أن في حديث سبب نزولها إشكالات في سنده وفي متنه فإنه مخالف لأصل الشريعة القطعي المجمع عليه من العمل بالظاهر ، فهو باطل قطعا بما فصلوه به تفصيلا ( راجع تفسير ص 481 - 484 ج 10 ط الهيئة )
ويقرب منه في المعنى ما روي في الصحاح من نزول قوله تعالى : (
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ) ( 9 : 84 ) وأنه في
عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم المنافقين الأكبر وقد بينا في تفسيرها ما في الحديث من التعارض مع القرآن فراجعه ( في ج 10 تفسير ) .
ومن المشكل في هذا الباب قصة
مسجد الضرار في الآيات ( 107 - 110 ) فقد بين الله تعالى فيها أنهم اتخذوه لأربعة أغراض منها الكفر وسائرها أقبح مقاصد أعداء الله ورسوله والمؤمنين . وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهدمه فهدم ولم يأمر بقتلهم ، وقد شهد الله بكذبهم فيما حلفوا عليه من حسن نيتهم . وسبب ذلك أن الذين بنوه للمقاصد الأربعة المذكورة في الآيات كانوا كما قال المفسرون اثني عشر رجلا من منافقي
الأوس والخزرج أتباع
أبي عامر الراهب الذي وعدهم بأن يتوسل بنصرانيته إلى
قيصر الروم والشام فيرسل معه جندا يكفيهم أمر الرسول ومن اتبعه من المؤمنين ، ولكن صدقهم في ظاهر عملهم وما زعموه من حسن النية فيه - كثير من المؤمنين ، وشاركوهم وصلوا معهم فيه ، وكان التمييز بينهم متعذرا ، فصح أن يأتي في الفريقين قوله تعالى في المسلمين المستخفين من المشركين في
مكة عام
الحديبية (
لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) ( 48 : 25 ) .
[ ص: 114 ] والسبب الخاص لعدم عقاب أصحاب مسجد الضرار على الكفر الذي أثبته النص الصريح - أمران ( أحدهما ) أن الآيات في قصتهم قد بدئت بما يحتمل أن يكون ذكرهم فيها معطوفا على الذين أرجأ الله البت في أمرهم وجعل التوبة عليهم مرجوة ، وهو قوله تعالى (
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ) ( 9 : 106 ) والثاني ختم قصتهم بقوله تعالى (
لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ) ( 9 : 110 ) فيظهر في معنى ( تقطع قلوبهم ) احتمال هو أحد الأقوال في تفسيره ، وهو تقطعها من الأسف والحزن على ما فرط منهم ، ووقوع هذا الاستثناء محتمل ، وإذا يكون أقوى الأدلة على توبتهم وأصدقها ، ويكفي الاحتمال لمنع الحكم عليهم بالكفر .