ثبوت نبوة محمد بنفسها وإثباتها لغيرها :
وجملة القول أن نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - قد ثبتت بنفسها ، أي بالبرهان العلمي والعقلي الذي لا ريب فيه لا بالآيات والعجائب الكونية ، وأن هذا البرهان قائم ماثل للعقول والحواس في كل زمان ، وأنه لا يمكن إثبات آيات النبيين السابقين إلا بثبوت نبوته - صلى الله عليه وسلم - وهذا القرآن الذي جاء به ، فالحجة الوحيدة عليها في هذا الطور العلمي الاستقلالي من أطوار النوع البشري هو شهادته لها . فإن الكتب التي نقلتها لا يمكن إثبات عزوها إلى من عزيت إليهم ; إذ لا يوجد نسخ منها منقولة عنهم باللغات التي كتبوها بها لا تواترا ولا آحادا ، ولا يمكن إثبات عصمتهم من الخطأ فيما كتبوه على اختلافه وتناقضه وتعارضه ، ولا إثبات صحة التراجم التي نقلت بها ، كما قلنا آنفا وبيناه بالتفصيل مرارا .
الكتاب الإلهي الوحيد الذي نقل بنصه الحرفي تواترا عمن جاء به بطريقتي الحفظ والكتابة معا هو القرآن ، والنبي الوحيد الذي نقل تاريخه بالروايات المتصلة الأسانيد حفظا وكناية هو
محمد - صلى الله عليه وسلم - فالدين الوحيد الذي يمكن للعلماء المستقلين في الفهم والرأي أن يعقلوه ويبنوا عليه حكمهم هو الإسلام . وأما خلاصة ما يمكن الاعتراف به من الأديان السابقة لثبوت قضاياه الإجمالية بالتواتر المعنوي ، فهو أنه وجد في جميع أمم الحضارة القديمة
[ ص: 134 ] دعاة إلى عبادة الله تعالى وإلى العمل الصالح وإلى ترك الشرور والرذائل منهم أنبياء مبلغون عن الله تعالى مبشرين ومنذرين ، كما أنه وجد فيهم حكماء يبنون إرشادهم على الاحتجاج بما ينفع الناس ويضرهم بحكم العقل والتجربة - ووجد في جميع ما نقل عن الفريقين أمور مخالفة للعقل ولما ينفع الناس ، وأمور خاصة بأهلها وبزمانهم ، وخرافات ينكرها العقل وينقضها العلم .
وإذا كان الإسلام ونبيه هو الدين الوحيد الذي عرفت حقيقته وتاريخه بالتفصيل فإننا نذكر هنا شبهة علماء الإفرنج الماديين ومقلدتهم عليه ، بعد مقدمة في شهادتهم الإجمالية له ، تمهيدا لدحض الشبهة ، ونهوض الحجة ، فنقول :