(
بسط ما يصورون به الوحي النفسي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - )
هأنذا قد بسطت جميع المقدمات التي استنبطوها من تاريخ
محمد - صلى الله عليه وسلم - وحالته النفسية والعقلية ، وحالة قومه ووطنه ، وما تصوروا أنه استفاده من أسفاره ، وما كان من تأثير خلواته وتحنثه وتفكره فيها ، وقفيت عليها بأصح ما رواه المحدثون في الصحاح من صفة الوحي وكيف كان بدؤه وفترته ، ثم كيف أمر - صلى الله عليه وسلم - بتبليغه ودعوة الناس إلى الحق وكيف حمي وتتابع .
وأبين الآن كيف يستنبطون من ذلك أن هذا الوحي قد نبع من نفس
محمد وأفكاره بتأثير ذلك كله في وجدانه وعقله ، بما لم أر ولم أسمع مثله في تقريبه إلى العقل ، ثم أقفي عليه بما ينقضه من أساسه بأدلة العقل والتاريخ والصحيح من وصف حالته - صلى الله عليه وسلم - فأقول :
يقولون : إن عقل
محمد الهيولاني قد أدرك بنوره الذاتي بطلان ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام كما أدرك ذلك أفراد آخرون من قومه - آمنا وصدقنا - وإن فطرته الزكية قد احتقرت ما كانوا يتنافسون فيه من جمع الأموال بالربا والقمار - آمنا وصدقنا - وإن فقره وفقر عمه (
أبي طالب ) الذي كفله صغيرا قد حال دون انغماسه فيما كانوا يسرفون فيه من الاستمتاع بالشهوات ، من السكر والتسري وعزف القيان - الصحيح أنه ترك ذلك احتقارا له لا عجزا عنه - وأنه طال تفكره في إنقاذهم من ذلك الشرك القبيح وتطهيرهم من تلك الفواحش والمنكرات - لا مانع من ذلك - ، وإنه استفاد من أسفاره وممن لقيه فيها وفي
مكة نفسها من
النصارى كثيرا من المعلومات عن النبيين والمرسلين الذين بعثهم الله في
بني إسرائيل وغيرهم فأخرجوهم من الظلمات إلى النور - هذا ولم يصح عندنا ولا يضرنا - ، وإن تلك المعلومات لم تكن كلها مقبولة في عقله لما عرض للنصرانية من الوثنية بألوهية
المسيح وأمه وغير ذلك وبما حدث فيها من البدع - هذا مبني على ما قبله فهو معقول غير منقول - وإنه كان قد سمع أن الله سيبعث نبيا مثل أولئك الأنبياء من العرب في
الحجاز قد بشر به
[ ص: 153 ] عيسى المسيح وغيره من الأنبياء - وإن هذا علق بنفسه فتعلق رجاؤه بأن يكون هو ذلك النبي الذي آن أوانه - وهذا استنباط لهم مما قبله وسيأتي ما فيه - ونتيجة ما تقدم أنه توسل إلى ذلك بالانقطاع إلى عبادة الله تعالى والتوجه إليه في خلوته
بغار حراء فقوي هنالك إيمانه ، وسما وجدانه ، فاتسع محيط تفكره ، وتضاعف نور بصيرته ، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات البينات في ملكوت السماوات والأرض على وحدانية مبدع الوجود ، وسر النظام الساري في كل موجود ، بما صار به أهلا لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وما زال يفكر ويتأمل ، وينفعل ويتململ ، ويتقلب بين الآلام والآمال ، حتى أيقن أنه هو النبي المنتظر ، الذي يبعثه الله لهداية البشر ، فتجلى له هذا الاعتقاد في الرؤى المنامية ، ثم قوي حتى صار يتمثل له الملك يلقنه في اليقظة .
وأما المعلومات التي جاءته في هذا الوحي فهي مستمدة الأصل من تلك المعلومات التي ذكرناها ، ومما هداه إليه عقله وتفكره في التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح ، ولكنها كانت تتجلى له نازلة من السماء ، وأنها خطاب الخالق عز وجل بواسطة الناموس الأكبر ملك الوحي
جبريل الذي كان ينزل على
موسى بن عمران وعيسى ابن مريم وغيرهما من النبيين عليهم السلام .
وقال أحد ملاحدة المصريين : إن
سولون الحكيم اليوناني وضع قانونا وشريعة لقومه فليس بدعا في العقل أن يضع
محمد شريعة أيضا ، وسأبين فساد هذا الرأي .