(
أسلوب القرآن الخاص وحكمته وإعجازه به )
لو أن عقائد الإسلام المنزلة في القرآن من الإيمان بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من الحساب ودار الثواب ودار العقاب جمعت وحدها مرتبة في ثلاث سور أو أربع أو خمس مثلا ككتب العقائد المدونة - ولو أن عباداته من الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والدعاء والأذكار وضع كل منها في بضع سور أيضا ككتب الفقه المصنفة - ولو أن آدابه وحكمه وفضائله الواجبة والمندوبة ، وما يقابلها من الرذائل والأعمال المحرمة والمكروهة ، أفردت هي وما يقتضيه الترغيب والترهيب من المواعظ والنذر والأمثال الباعثة لشعوري الخوف والرجاء في بضع سور أخرى ككتب
[ ص: 163 ] الأخلاق والآداب المؤلفة - ولو أن قواعده التشريعية وأحكامه الشخصية والسياسية والحربية والمدنية وحدوده وعقوباته التأديبية رتبت في عدة سور خاصة بها كأسفار القوانين الوضعية - ثم لو أن قصص النبيين المرسلين وما فيها من العبر والمواعظ والسنن الإلهية سردت في سورها مرتبة كدواوين التاريخ - لو أن كل ما ذكر وما لم يذكر من مقاصد القرآن التي أراد الله بها إصلاح شئون البشر جمع كل نوع منها وحده كترتيب أسفار التوراة التاريخي الذي لا يعلم أحد مرتبه ، أو كتب العلم والفقه والقوانين لفقد القرآن بذلك أعظم مزايا هدايته المقصودة بالقصد الأول للغاية التي انتهت إليها ، وهو التعبد به واستفادة كل حافظ للقليل من سوره كثيرا من مسائل الإيمان والفضائل والأحكام والحكم المنبثة في جميع السور ; لأن السورة الواحدة لا يوجد فيها في هذا الترتيب إلا مقصد واحد من تلك المقاصد ، وقد يكون أحكام الطلاق أو الحيض ، فهو يتعبد بها ، ولاشك أنه يملها ، وأما سوره المنزلة ففي كل منها حتى أقصرها عدة مسائل من الهداية فترى في سورتي الفيل وقريش ( المتعلقة إحداهما بالأخرى حتى في الإعراب ) ذكر مسألتين تاريخيتين قد جعلتا حجة على مشركي
قريش فيما يجب عليهم من توحيد الله وعبادته بما من عليهم من عنايته بحفظ البيت الذي هو مناط عزهم وفخرهم وشرفهم وتأمين تجارتهم وحياتهم - ولفقد بهذا الترتيب أخص أنواع إعجازه أيضا .
يعلم هذا وذاك مما نبينه من فوائد نظمه وأسلوبه الذي أنزله به رب العالمين العليم ، الحكيم ، الرحيم ، وهو مزج تلك المقاصد كلها بعضها ببعض ، وتفريقها في السور الكثيرة ، الطويلة منها والقصيرة ، بالمناسبات المختلفة ، وتكرارها بالعبارات البليغة المؤثرة في القلوب ، المحركة للشعور ، النافية للسآمة والملل من المواظبة على ترتيلها بنغمات نظمه الخاص به وفواصله المتعددة القابلة لأنواع من التغني الذي يحدث في القلب وجدان الخشوع ، وخشية الإجلال للرب المعبود ، والرجاء في رضوانه ورحمته ، والخوف من عقوبته ، والاعتبار بسنته في خلقه ، بما لا نظير له في كلام البشر من خطابة ولا شعر ولا رجز ولا سجع ، فبهذا الأسلوب الرفيع في النظم البديع وبلاغة التعبير السنيع ، كان كما ورد في وصفه : لا تبلى جدته ولا تخلقه كثرة الترديد . وحكمة ذلك وغايته تعلم مما وقع بالفعل وهاك بيانه بالإجمال .