[ ص: 174 ] ( الركن الثاني من أركان الدين عقيدة البعث والجزاء )
وأما الركن الثاني . وهو
الإيمان باليوم الآخر وما يكون فيه من البعث والحساب والجزاء على الأعمال ، فقد كان جل مشركي العرب ينكرونه أشد الإنكار ، ولا يكمل الإيمان بالله تعالى ويكون باعثا للأمة على العمل الصالح وترك الفواحش والمنكرات والبغي والعدوان بدونه وكان أهل الكتاب وغيرهم من الملل التي كان لها كتب وتشريع ديني ومدني ، ثم فقدت كتبهم أو حرفت واستحوذت عليهم الوثنية - يؤمنون بحياة بعد الموت وجزاء على الأعمال ، ولكن إيمانهم هذا قد شابه الفساد ببنائه على بدع ذهبت بجل فائدته في إصلاح الناس . وأساسها عند
الهنود وغيرهم من قدماء الوثنيين وخلف
النصارى - وجود المخلص الفادي ، الذي يخلص الناس من عقوبة الخطايا ويفديهم بنفسه ، وهو الأقنوم الثاني من الثالوث الإلهي الذي هو عين الأول والثالث ، وكل واحد منهما عين الآخر . وكل ما يقوله
النصارى في فداء
المسيح للبشر وغير ذلك ، فهو نسخة مطابقة لما يقوله
الهنود في ( كرشنة ) في اللفظ والفحوى كما تقدم ، لا يختلفان إلا في الاسمين :
كرشنة ،
ويسوع .
وأما
اليهود فكل ديانتهم خاصة بشعب إسرائيل ومحاباة الله تعالى له على سائر الشعوب في الدنيا والآخرة ، ويسمونه إله إسرائيل كأنه ربهم وحدهم لا رب العالمين ، وديانتهم أقرب إلى المادية منها إلى الروحية . فكان فساد الإيمان بهذا الركن من أركان الدين تابعا لفساد الركن الأول وهو الإيمان بالله تعالى ومعرفته ، ومحتاجا إلى الإصلاح مثله .
جاء القرآن للبشر بهذا الإصلاح ، فقد أعاد دين النبيين في الجزاء إلى أصله المعقول ، وهو ما كرم الله تعالى به الإنسان من جعل سعادته وشقائه منوطين بإيمانه وعمله ، اللذين هما من كسبه وسعيه لا من عمل غيره ، وأن الجزاء على الكفر والمعاصي يكون بعدل الله تعالى بين جميع خلقه بدون محاباة شعب على شعب ، والجزاء على الإيمان والأعمال الصالحة يكون بمقتضى الفضل ، فالحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها الله تعالى أضعافا كثيرة .
ومدار كل ذلك قاعدة قوله تعالى : (
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) ( 91 : 7 - 10 ) أي إن الله الذي خلق هذه النفس وسواها بما وهبها من المشاعر والعقل . قد جعلها بإلهام الفطرة والغريزة مستعدة للفجور الذي يرديها ويدسيها ، والتقوى التي تنجيها وتعليها ، ومتمكنة من كل منهما بإرادتها ، والترجيح بين خواطرها ومطالبها . ومنحها العقل والدين يرجحان الحق والخير على الباطل والشر ، فبقدر طهارة النفس وأثر تزكيتها بالإيمان ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، يكون ارتقاؤها في الدنيا وفي الآخرة ، والضد بالضد فالجزاء أثر طبيعي للعمل النفسي والبدني الذي يزكي
[ ص: 175 ] النفس أو يدسيها ويدنسها ، وهذا هو الحق الذي يثبته من عرف حقيقة الإنسان ، وحكمة الديان وهو مما أصلحه القرآن من تعاليم الأديان .
فإذا علمت ما كان من إنكار مشركي العرب للبعث والجزاء . ومن فساد إيمان أهل الكتاب وسائر الملل في هذه العقيدة ، وعلمت أنها مكملة للإيمان بالله تعالى ، وأن تذكرها هو الذي يقوي الوازع النفسي الذي يصد الإنسان عن الباطل والشر والظلم والبغي ، ويرغبه في التزام الحق والخير وعمل البر - علمت أن ذلك ما كان ليفعل فعله العاجل في شعب كبير إلا بتكراره في القرآن بالأساليب العجيبة التي فيه من حسن البيان ، وتقريب البعيد من الأذهان . تارة بالحجة والبرهان ، وتارة بضرب الأمثال ، وقد تكرر في آيات بينات ، لعلها تبلغ المئات ، ومن إعجازه أنها لا تمل ولا تسأم .
الإيمان بالبعث والجزاء ، وهو الركن الثاني في جميع الأديان ، من لوازم الركن الأول وهو الإيمان بالله المتصف بجميع صفات الكمال ، المنزه عن البعث في أفعاله وأحكامه ، ولهذا كان من أظهر أدلة القرآن عليه قوله : (
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) ( 23 : 115 ) وقوله : (
أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ( 75 : 36 - 40 ) فكفر الإنسان بهذا الركن من أركان الإيمان يستلزم كفره بحكمة ربه وعدله في خلقه ، وكفره بنعمته بخلقه في أحسن تقويم وتفضيله على أهل علله ( الأرض ) حيث سخرها وكل ما فيها لمنافعه ، وعلى كثير ممن خلق في عالم الغيب الذي وعده بمصيره إليه وجهاد بما وهبه من المشاعر والقوى والعقل ، وجهله بحكمته في خلقه مستعدا لما ليس له حد ونهاية من العلم الدال على أنه خلق لحياة لا حد لها ولا نهاية - ومن لوازم هذا الكفر والجهل كله ، احتقاره لنفسه باعتقاده أنه خلق عبثا لا لحكمة بالغة ، وأن وجوده في الأرض موقوت محدود بهذا العمر القصير ، المنغص بالهموم والمصائب والظلم والبغي والآثام ، وأنه يترك سدى لا يجزى كل ظالم من أفراده بظلمه ، وكل عادل بعدله وفضله ، وإذ كان هذا الجزاء غير مطرد في الدنيا لجميع الأفراد ، تعين أن يكون جزاء الآخرة هو المظهر الأكبر للعدل العام .
ومما جاء في القرآن مخالفا لما عند النصارى من عقيدة البعث والجزاء أن الإنسان في الحياة الآخرة يكون إنسانا كما كان في الدنيا ، إلا أن أصحاب الأنفس الزكية والأرواح العالية يكونون أكمل أرواحا وأجسادا مما كانوا بتزكية أنفسهم في الدنيا ، وأصحاب الأنفس الخبيثة والأرواح السافلة يكونون أنقص وأخبث مما كانوا بتدسية أنفسهم في الدنيا ، ويعلم مما ثبت
[ ص: 176 ] عن قدماء المصريين وغيرهم من الأقدمين أن الأديان القديمة كانت تعلم الناس عقيدة البعث بالروح والجسد .
ولو كان البعث للأرواح وحدها لنقص من ملكوت الله تعالى هذا النوع الكريم المكرم من الخلق المؤلف من روح وجسد ، فهو يدرك اللذات الروحية واللذات الجثمانية ، ويتحقق بحكم الله ( جمع حكمة ) وأسرار صنعه فيهما معا ، من حيث حرم الحيوان والنبات من الأولى والملائكة من الثانية ، وما جنح من جنح من أصحاب النظريات الفلسفية إلى البعث الروحاني المجرد ، إلا لاحتقارهم للذات الجسدية وتسميتها بالحيوانية مع شغف أكثرهم بها ، وإنما تكون نقصا في الإنسان إذا سخر عقله وقواه لها وحدها ، حتى يصرفه اشتغاله بها عن اللذات العقلية والروحية بالعلم والعرفان ، وأصل هذا الإفراط والتفريط غلو
الهنود في احتقار الجسد وتربية النفس بالرياضة وتعذيب الجسد ، وتبعهم فيه نساك
النصارى كما تبعوهم في عقيدة الصلب والفداء والتثليث ، على أنهم نقلوا أن
المسيح عليه السلام شرب الخمر مع تلاميذه لما ودعهم في الفصح وقال لهم : إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت أبي ( متى 26 : 29 ) وجرى
اليهود على عكس ذلك . وجاء الإسلام بالاعتدال فأعطى الإنسان جميع حقوقه ، وطالبه بما يكون بها كاملا في إنسانيته .
وقد بينا كل ما يتعلق بهذه المسألة من جميع أطرافها العلمية والدينية وكشف شبهاتها في تفسير سورة الأعراف ، التي هي أجمع سور القرآن لمسائل الإيمان بالله وتوحيده والبعث والرسالة ، ودحض شبهات المشركين عليها ص 417 - 427 ج 8 ط الهيئة .
ويؤخذ مما ورد من الآيات والأحاديث النبوية من صفة حياة الآخرة أن القوى الروحية تكون هي الغالبة والمتصرفة في الأجساد ، فتكون قادرة على التشكل بالصور اللطيفة وقطع المسافات البعيدة في المدة القريبة ، والتخاطب بالكلام بين أهل الجنة وأهل النار - وإن ترقي البشر في علم الكيمياء وخواص الكهرباء والصناعات والآلات في عصرنا قد قرب كل هذا من حس الإنسان ، بعد أن كان الماديون الملحدون يعدون مثل قوله تعالى : (
ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ) ( 7 : 44 ) من تخيلات
محمد - صلوات الله وسلامه عليه - وها نحن أولاء نخاطب من
مصر أهل عواصم أوربة بآلة التليفون ، ونسمع خطبهم ومعازفهم بآلة الراديو وسنراهم ويروننا بآلة التليفزيون مع التخاطب حينما يعم انتشارها .
وأما علماء الروح من الإفرنج وغيرهم فقد قرروا أن الأرواح البشرية قادرة على التشكل في أجساد تأخذها من مادة الكون كما يقول
الصوفية . وهذه مسألة أو مسائل قد شرحناها
[ ص: 177 ] من قبل في هذا التفسير وإنما نذكرها هنا بالإجمال ردا على من زعموا أن القرآن مستمد من كتب
اليهود والنصارى ومن عقل
محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلهاماته الروحية .
ويناسب هذا ما جاء في القرآن من نبأ خراب العالم وقيام الساعة التي هي بدء ما يجب الإيمان به من عقيدة البعث والجزاء ، ولم يوجد له أصل عند أهل الكتاب ولا غيرهم ، ولا هو مما يمكن أن يكون قد عرفه
محمد - صلى الله عليه وسلم - بذكائه أو نظرياته العقلية . وجملته أن قارعة - والظاهر أنها كوكب - تقرع الأرض وتصخها صخا وترجها رجا فتكون هباء ( غبارا رقيقا ) منبثا في الفضاء وحينئذ يختل ما يسمى في عرف العلماء بالجاذبية للعامة فتتناثر الكواكب إلخ . وهذا المعنى لم يكن يخطر ببال أحد أن يقال إن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - سمعه من أحد في بلده أو في سفره ولا يعقل أن يكون قاله برأيه وفكره ، فهو من أنباء القرآن الكثيرة التي تدحض زعم القائلين بالوحي النفسي وقد صرح غير واحد من علماء الهيئة الفلكية المعاصرين بأن خراب العالم بهذا السبب هو أقرب النظريات العلمية لخرابه .