الفرق بين الخوارق الكسبية والحقيقية :
وجملة القول : أن أسرار هذا الكون لا يحيط بها إلا خالقه عز وجل - وأنه قد وجد في كل عصر وقائع غريبة تعد من هذه الأسرار الجارية على غير نظام السنن الإلهية في الخلق ، بحسب ما يتراءى للجمهور بادي الرأي ، وإن ما يتناقله الجمهور المولع بالغرائب منها - منه ما هو كذب محض ، ومنه ما له أسباب علمية أو صناعية خفية يجهلها الأكثرون ، ومنه ما يظن أنه من خوارق العادات وليس منها ، ومنه ما سببه الوهم كشفاء بعض الأمراض ، أو انخداع البصر بالتخييل الذي يحذقه المشعوذون ، ومنه ما فعله سحرة فرعون المبين بقوله تعالى : (
فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) ( 20 : 66 ) ومنه انخداع السمع كالذي يفعله الذين يدعون استخدام الجن ، إذ يتكلمون ليلا بأصوات غريبة غير أصواتهم المعتادة فيظن مصدقهم أن ذلك صوت الجني ، وقد يتكلمون نهارا من بطونهم من غير أن يحركوا شفاههم ، فلا يوثق بشيء من أخبارهم ولا من نقلهم - ومن الدلائل على كذب المنتحلين
[ ص: 192 ] لهذه الغرائب أنهم جعلوها وسيلة لمعايشهم الدنيئة ، وأنهم لو كانوا صادقين فيها لتنافس الملوك وكبار علماء الكون في صحبتهم والاهتداء بهم .
المعجزات قسمان : تكوينية وروحانية تشبه الكسبية :
المعجزات كلها من الله تعالى لا من كسب الأنبياء كما نطق به القرآن ، ولكنها بحسب مظهرها قسمان : قسم لا يعرف له سنة إلهية يجري عليها فهو يشبه الأحكام الاستثنائية في قوانين الحكومات أو ما يكون بإرادة سنية من الملوك لمصلحة خاصة .
( ( ولله المثل الأعلى ) ) وقسم يقع بسنة إلهية روحانية لا مادية .
أما المأثور من آيات الله التي أيد بها
موسى عليه السلام وأثبتها القرآن له ، كالآيات التسع
بمصر فهي من القسم الأول ، ولم يكن شيء منها بكسب له حقيقي ولا صوري وكذلك الآيات الأخرى التي ظهرت في أثناء خروجه ببني إسرائيل ومدة التيه ، بل كل ذلك كان بفعل الله تعالى بدون سبب كسبي
لموسى عليه السلام إلا ما يأمره الله تعالى به من ضرب البحر أو الحجر بعصاه التي هي آيته الكبرى ، ولم يرد لأحد من الأنبياء آية كهذه الآيات فضلا عمن دونهم ، ولا هي مما يحتمل أن يكون بسبب من الأسباب التي تكون لأحد من الناس بالرياضة الروحية أو خواص المادة وقواها .
وأما
المسيح عليه السلام فالآيات التي أيده الله تعالى بها - على كونها خارقة للعادات الكسبية وعلى خلاف السنن المعروفة للناس - قد يظهر فيها أنها كلها أو جلها حدث على سنة الله في عالم الأرواح ، كما كان خلقه كذلك ، فقد حملت أمه به بنفخة من روح الله عز وجل فيها - وهو الملك
جبريل عليه السلام - كانت سبب علوقها به بفعلها في الرحم ما يفعل تلقيح الرجل بقدرة الله عز وجل ، فلا غرو أن كانت مظاهر آياته أعظم من مظاهر سائر الروحيين من الأنبياء والأولياء ، كالكشف وشفاء بعض المرضى وغير ذلك من التأثير في المادة الذي اشتهر عن كثير منهم . والفرق بينه وبين الروحانيين من صوفية
الهنود والمسلمين أن روحانيته عليه السلام أقوى وأكمل وأنها لم تكن بعمل كسبي منه ، بل من أصل خلق الله عز وجل له بآية منه كما قال : (
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ) ( 21 : 91 ) (
وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) ( 23 : 50 ) فآيتهما هي الحمل به وخلقه بنفخ الروح الإلهي لا بسبب التلقيح البشري ، ولا بما قيل من احتمال وجود مادتي الذكورة والأنوثة في رحمها .
وأعظم آياته الروحانية التي أثبتها له التنزيل ولم ينقلها مؤلفو الأناجيل الأربعة ( وروي أنها
[ ص: 193 ] منصوصة في إنجيل الطفولية الذي نبذته المجامع الكنسية قبل البعثة المحمدية ففقد من العالم هي أنه كان يأخذ قطعة من الطين فيجعلها بهيئة طير ، فينفخ فيه أي من روحه فيكون طيرا بإذن الله تعالى ومشيئته ، والمروي أنه كان يطير قليلا ويقع ميتا . ودون هذا إحياء الميت الصحيح الجسم القريب العهد بالحياة ، فإن توجيه سيال روحه القوي إلى جثة الميت مع توجيه قلبه إلى الله عز وجل ودعائه ، كان يكون سببا روحانيا لإعادة روحه إليه بإذن الله ومشيئته ، كما يمس النور ذبال السراج المنطفئ فتشتعل أو كما يتصل السلك الحامل للكهربائية الإيجابية بالسلك الحامل للكهربائية السلبية بعد انقطاعها فيتألق النور منهما . وقد ثبت عن بعض أطباء هذا العصر إعادة الحياة الحيوانية إلى فاقدها عقب فقدها بعملية جراحية أو معالجة للقلب
ومن دون هذا وذاك شفاء بعض الأمراض ولا سيما العصبية ، سواء كان سببها مس الشيطان وتلبسه بالمجنون كما في الأناجيل أم غيره ، فإن الشيطان روح خبيث لا يستطيع البقاء مع توجه الروح الطاهر الذي هو شعلة من روح القدس
جبريل عليه السلام ، واتصاله بمن تلبس به ، وقد وقع مثل هذا لشيخ الإسلام
ابن تيمية وغيره من الروحانيين ، وما من مرض عصبي أو غيره إلا وهو ضعف في الحياة بأن يزول باتصال هذا الروح بالمصاب به لأنه أعظم أسباب الحياة والقوة .
ومن دون هذا وذاك المكاشفات المعبر عنها فيما حكاه تعالى عنه بقوله : (
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) ( 3 : 49 ) وقد أنبأ غيره من أنبياء
بني إسرائيل وغيرهم بما هو أعظم من هذا من الأمور المستقبلة ، وكذا غيرهم من الروحانيين ولا سيما أمة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكنها درجات متفاوتة في القوة والضعف ، وطول المدة وقصرها ، والثقة بالمرئي وعدمها ، وإدراك الحاضر الموجود ، والغائب المفقود ، وما كان في الأزمنة الماضية ، وما يأتي في الأزمنة المستقبلة ، فأعلاها خاص بالأنبياء ، إذ لم يوجد ولن يوجد بشر يعلم بالكشف ما وقع منذ القرون الأولى كأخبار القرآن عن الرسل الأولين مع أقوامهم أو ما يقع بعد سنين في المستقبل كإخباره عن عود الكرة للروم على الفرس ، وإخباره - صلى الله عليه وسلم - بفتح الأمصار واتباع الأمم لأمته ، ثم بتداعيهم عليها من المكاشفات الثابتة في هذا العصر ما يسمونه قراءة الأفكار وقد شاهدنا من فعله ، ومنها مراسلة الأفكار .
فتبين بهذا وذاك أن آيات الله تعالى المشهورة
لموسى بمحض قدرته تعالى دون سنة من سننه الظاهرة في قواه الروحية ، وأن آياته
لعيسى عليه السلام بخلاف ذلك .
والنوع الأول أدل على قدرة الله تعالى ومشيئته واختياره في أفعاله في نظر البشر ، لبعدها عن نظام الأسباب والمسببات التي تجري عليها أفعالهم .