( 3 )
الإسلام دين العلم والحكمة :
ذكر اسم العلم معرفة ونكرة في عشرات من آيات القرآن الحكيم ، وذكرت مشتقاته أضعاف ذلك ، وهو يطلق على علوم الدين والدنيا بأنواعها ، فمن العلم المطلق قوله تعالى في وصايا سورة الإسراء : (
ولا تقف ما ليس لك به علم ) ( 17 : 36 ) قال
الراغب : أي لاتحكم بالقيافة والظن . وقال
البيضاوي ما ملخصه : ولا تتبع ما لم يتعلق به علمك تقليدا أو رجما بالغيب ، ومنه قوله في العلم المأثور في التاريخ : (
ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ) ( 46 : 4 ) ومنه قوله تعالى في علوم البشر المادية : (
ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) ( 30 : 6 و 7 ) إلخ . وقوله فيها دون العلم الروحي : (
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ( 17 : 85 ) .
وقوله في العلم العقلي : (
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ) ( 22 : 8 ) الظاهر أن المراد بالعلم فيه العلم النظري ، بدليل مقابلته بالهدى والكتاب المنير وهو هدى الدين . وقوله في العلم الطبيعي : (
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ) ( 30 : 22 ) بكسر اللام أي علماء الكون ، ومثله قوله بعد ذكر إخراج الثمرات المختلف ألوانها من ماء المطر ، واختلاف ألوان الطرائق في الجبال وألوان الناس والدواب : (
إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ( 35 :28 )
[ ص: 204 ] الآية . فالمراد بالعلماء هنا الذين يعلمون أسرار الكون وأسباب اختلاف أجناسه وأنواعه وألوانها وآيات الله وحكمه فيها .
عظم القرآن شأن العلم تعظيما لا تعلوه عظمة أخرى بقوله تعالى : (
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ) ( 3 : 18 ) الآية ، فبدأ عز وجل بنفسه وثنى بملائكته ، وجعل أولي العلم في المرتبة الثالثة ، ويدخل فيها الأنبياء والحكماء ومن دونهم من أهل الدرجات في قوله :
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ( 58 : 11 ) وأمر أكرم رسله وأعلمهم بأن يدعوه بقوله :
وقل رب زدني علما ( 20 : 114 ) .
ويؤيد الآيات المنزلة في مدح العلم والحث على ما ورد في ذم اتباع الظن كقوله تعالى :
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا ( 10 : 36 ) ومثله :
وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ( 53 : 28 ) وقوله في قول
النصارى بصلب
المسيح :
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ( 4 : 157 ) .
وبلغ من تعظيمه لشأن العلم والبرهان أن قيد به الحكم بمنع الشرك بالله تعالى والنهي عنه وهو أكبر الكبائر وأقصى الكفر فقال :
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( 7 : 33 ) السلطان البرهان .
وقال في بر الوالدين الكافرين :
ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ( 29 : 8 ) ومعلوم من الدين بالضرورة أن الشرك بالله لا يكون بعلم ولا ببرهان ، لأنه ضروري البطلان ، وترى تفصيل هذا فيما بعده من تعظيم أمر الحجة والدليل وما يليه من ذم التقليد .
وأما الحكمة فقد قال تعالى في تعظيم شأنها المطلق :
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ( 2 : 269 ) : وقال تعالى في بيان مراده من بعثة
محمد خاتم النبيين
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ( 62 : 2 ) وفي معناها آيتان في سورة البقرة وآل عمران . وقال لرسوله ممتنا عليه :
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ( 4 : 113 ) وقال له :
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ( 16 : 125 ) وقال له في خاتمة الوصايا بأمهات الفضائل والنهي عن كبائر الرذائل ، مع بيان عللها وما لها من العواقب :
[ ص: 205 ] ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ( 17 : 39 ) وقال لنسائه رضي الله عنهن :
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ( 33 : 34 ) .
وقد آتى الله جميع أنبيائه ورسله الحكمة ، ولكن أضاعها أقوامهم من بعدهم بالتقاليد والرياسة الدينية ، ونسخها بولس من النصرانية بنص صريح . قال الله تعالى في اليهود :
أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ( 4 : 54 ) فالكتاب أعلى ما يؤتيه تعالى لعباده من نعمه ويليه الحكمة ويليها الملك . وقال في نبيه
داود عليه السلام :
وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ( 2 : 251 ) وقال لنبيه
عيسى عليه السلام :
وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ( 5 : 110 ) وقال :
ولقد آتينا لقمان الحكمة ( 31 : 12 ) وذكر من حكمته وصاياه لابنه بالفضائل ومنافعها ونهيه عن الرذائل معللة بمضارها . فالحكمة أخص من العلم ، هي العلم بالشيء على حقيقته وبما فيه من الفائدة والمنفعة الباعثة على العمل ، فهي بمعنى الفلسفة العملية كعلم النفس والأخلاق وأسرار الخلق ، ويدل عليه قوله تعالى بعد وصايا سورة الإسراء :
ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ( 17 : 39 ) ولولا اقتران تلك الوصايا بحكمها وعللها ومنافعها لما سميت حكمة . ألا ترى أنه سمى فيها المبذرين للمال ( (
إخوان الشياطين ) ) لأنهم يفسدون نظام المعيشة بإسرافهم ، ويكفرون النعمة بعدم حفظها ووضعها في مواضعها بالاعتدال ، ولذلك قال عقبه :
وكان الشيطان لربه كفورا ( 17 : 27 ) ثم قال : (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) ( 17 : 29 ) فعلل الإسراف في الإنفاق بأن عاقبة فاعله أن يكون ملوما من الناس ومحسورا في نفسه ، والمحسور من حسر عنه ستره فانكشف منه المغطى ، ويطلق على من انحسرت قوته وانكشفت عن عجزه ، والمحسور المغموم أيضا . وكل هذه المعاني تصح في وصف المسرف في النفقة ، يوقعه إسرافه في العدم والفقر إلخ . وحسير البصر كليله وقصيره .
ويكثر في القرآن ذكر الفقه ، وهو الفهم الدقيق للحقائق الذي يكون به العالم حكيما .