ثم ذكر الفريق الآخر المقابل لمن تأخذه العزة إذا ذكر بالله تعالى فقال : (
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) وكان مقتضى المقابلة أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتبجح بالقول ، أو مع مطابقة قوله لعمله ، وموافقة لسانه لما في قلبه ، والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به . فإن من يشري ; أي : يبيع نفسه لله ، لا يبغي ثمنا لها غير مرضاته ، لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق ، مع الإخلاص في القلب ، فلا يتكلم بلسانين ، ولا يقابل الناس بوجهين ، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا وما عند كبرائها ومترفيها من القصور ، ومتاع الزينة والغرور ، وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه . وأما الإيمان القولي الذي يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلوب ، ولا تظهر آثاره في الأعمال ، ولا يحمل صاحبه شيئا من الحقوق لدينه وملته ولا لقومه وأمته ، فلا قيمة له في كتاب ، ولا يقام لصاحبه وزن في يوم الله ، بل يخشى أن يقال لذويه : (
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ) ( 46 : 20 ) .
ذكر الله تعالى هذا الشراء في آيات أخرى تشرح هذه الآية وتفسرها ، وتبين أن المؤمنين باعوا وأن الله قد اشترى ، كقوله عز وجل : (
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة - إلى قوله -
فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) ( 9 : 111 ) وقد وصف هؤلاء المؤمنين في الآية التي بعدها بما يجب على المؤمن أن يجعله معها ميزانا للإيمان وأهله ، فنفس المؤمن لله لا للشهوة واللذة البهيمية والمكر الشيطاني ، فمن آثر شهوته على مرضاة ربه ، والتزام حدوده ، والمحافظة على هدي دينه ، فلا وزن له في سوق هذا البيع ولا قيمة . ولقد نعلم أنه ليكبر هذا القول على المفتونين بزينة الحياة الدنيا ، ولذاتها وقصورها ، وخمورها وحورها ، وإن كانوا يزعمون أنهم من زعماء الدين ، وخدمته المخلصين; لأن الحق مر في مذاق المبطلين .
والآية لا تنافي ما دلت عليه آية الدعاء من أن الإسلام شرع لنا
طلب الدنيا من الوجوه الحسنة كما شرع لنا طلب الآخرة ، بل هي مؤيدة لها ، فإن طلبها من الطرق الحسنة; أي : المشروعة النافعة ، لا ينافي مرضاة الله تعالى ببيع النفس له; ولذلك لم يحرم سبحانه علينا إلا ما هو ضار بفاعله أو غيره ، فلنا أن نتمتع بها حلالا ، ونكون مثابين مرضيين عند الله تعالى . قال بعض الصحابة لما قال - عليه الصلاة والسلام - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918695وفي بضع أحدكم صدقة ) ) يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : ( ( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ) ) ؟ قالوا : [ ص: 203 ] نعم . قال : ( ( فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) ) رواه
مسلم من حديث
أبي ذر .
ولكن الذي ينافي مرضاة الله تعالى وينافي سعادة الدنيا قبل الآخرة هو أن يسترسل المرء في سبيل حظوظه وشهواته خارج الحدود المشروعة فيفسد في الأرض ، ولا يبالي أن يهلك بإفساده الحرث والنسل .
ثم إن هذا البيع لا يتحقق إلا إذا كان المؤمن يجود بنفسه وبماله في سبيل الله إذا مست الحاجة لذلك ، فكيف إذا ألجأت إليه الضرورة
كجهاد أعداء الملة والأمة عند الاعتداء عليهما، أو الاستيلاء على شيء من دار الإسلام ، وحينئذ يكون فرضا عينيا على جميع الأفراد فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه ، ومن قدر عليه بماله وجب عليه ، ومن قدر عليه بهما معا وجب عليه ، وسبيل الله هي الطريق الموصلة إلى مرضاته ، وهي التي يحفظ بها دينه ويصلح بها حال عباده . ومعنى هذا أنه لا يكتفي من المؤمن أن يكتسب بالحلال ، ويتمتع بالحلال ، وينفع نفسه ولا يضر غيره ، وأن يصلي ويصوم; لأن كل هذا يعمله لنفسه خاصة ، بل يجب أن يكون وجوده أوسع وعمله أشمل وأنفع، فيساعد على نفع الناس ودرء الضرر عنهم بحفظ الشريعة ، وتعزيز الأمة بالمال والأعمال ، والدعوة إلى الخير ومقاومة الشر ، ولو أفضى ذلك إلى بذل روحه ، فإن قصر في واجب يتعلق بحفظ الملة وعزة الأمة من غير عذر شرعي فقد آثر نفسه على مرضاة الله تعالى ، وخرج من زمرة كملة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى ، وكان أكبر إجراما ممن يقصر في واجب لا يضر تقصيره فيه إلا بنفسه ؛ ذلك أن الحكمة في
تربية النفس بالأعمال الحسنة والأخلاق الفاضلة هي أن ترتقي ويتسع وجودها في الدنيا، فيعظم خيرها وينتفع الناس بها ، وتكون في الآخرة أهلا لجوار الله تعالى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم ، وجعلوا أكثر أعمالهم خدمة للناس وسعيا في خيرهم ، فإن الله تعالى لم يشتر أنفس المؤمنين من الحظوظ والشهوات الشخصية الخسيسة; لأجل نفعه سبحانه أو دفع الضر عنه جل شأنه ، فهو غني عن العالمين ، وإنما شرع هذا ليكون المؤمن باتساع وجوده وعموم نفعه سيد الناس، فليعرض مدعو الإيمان أنفسهم على الآية وأمثالها ، فمن ادعى أنه من الذين باعوا أنفسهم لله وآثروا مرضاته على ما سواه ، فليعرضه غيره من المنصفين عليها ، ولا سيما إذا ادعى أنه واسع الوجود خادم للأمة والملة ، لا جرم أن كثيرا منهم لا يصدق عليهم شيء من ذلك ، ولا قوله تعالى : (
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) ( 49 : 14 ) فإن معنى أسلمنا انقدنا لأحكام الدين الظاهرة وأخذنا بأعماله البدنية .
وكثير ممن تعجبك أقوالهم من صنف المسلمين لا يصلون ولا يصومون ، ولا يزكون ولا يحجون ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ، ويأتون كثيرا من الكبائر جهارا ، ويصرون عليها إصرارا .
[ ص: 204 ] ذكر تعالى أن من الناس من يشري; أي : يبيع نفسه ، وهم المؤمنون الخلص كما في الآيات الأخرى ، والإخبار بذلك أقوى في طلبه من الأمر به وأدل على تقريره ، لأن الأمر به لا يدل على امتثال المأمورين ، والإخبار هو الذي يدل على الوقوع ، فالقرآن يصور المؤمنين عاملين بمقتضى الإيمان .
ثم بين أنه ما شرع هذا إلا رأفة بعباده فقال : (
والله رءوف بالعباد ) إذ يرفع همم بعضهم ويعلي نفوسهم حتى يبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده وتقرير الحق والعدل والخير فيهم ، ولولا ذلك لغلب شر أولئك المفسدين في الأرض حتى لا يبقى فيها صلاح (
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) ( 2 : 251 ) وإن هذا يؤيد ما قلناه في إزالة وهم من يتوهم أن بيع النفس يؤذن بترك الدنيا ، وألا يمتع المؤمن نفسه بلذاتها ، ولو كان كذلك - وهو من تكليف ما لا يطاق - لما قرنه الله تعالى باسمه الرءوف الدال على سعة رحمته بعباده ، فيالله ما أعجب بلاغة كلام الله ، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه .
ومن الدقة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة وهي أن
وجود هذه الأمة في الناس رحمة عامة للعباد لا خاصة بهم ، والأمر كذلك ، بل كثيرا ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم; إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم ، وإن على من يبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في نفع عباده ألا يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة ، بل عليه أن يكون حكيما يقدر الأمور بقدرها; إذ ليس المقصود بهذا الشراء إهانة النفس ولا إذلالها ، وإنما المراد دفع الشر وتقرير الخير العام رأفة بالعباد ، وإيثارا للمصلحة العامة . وإن أمة يتصف جميع أفرادها أو أكثرهم بهذا الوصف لجديرة بأن تسود العالمين ، وكذلك ساد سلفنا الصالحون ، وإن أمة تحرم من هذا الصنف لخليقة بأن تكون مستعبدة لجميع المتغلبين ، وكذلك استعبد خلفنا الطالحون ، فهل نحن معتبرون ؟