[ ص: 232 ] المقصد التاسع من فقه القرآن
( إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية )
كان النساء قبل الإسلام مظلومات ممتهنات مستعبدات عند جميع الأمم وفي جميع شرائعها وقوانينها ، حتى عند
أهل الكتاب ، حتى جاء الإسلام ، وأكمل الله دينه ببعثة خاتم النبيين
محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، فأعطى الله النساء بكتابه الذي أنزله عليه ، وبسننه التي بين بها كتاب الله تعالى بالقول والعمل ، جميع الحقوق التي أعطاها للرجال ، إلا ما يقتضيه اختلاف طبيعة المرأة ووظائفها النسوية من الأحكام ، مع مراعاة تكريمها والرحمة بها والعطف عليها ، حتى كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( (
ما أكرم النساء إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم ) ) رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13359ابن عساكر من حديث
علي عليه السلام .
وإنني أشير هنا إلى أهم أصول الإصلاح النسوي التي بسطتها بكتاب وسيط في ( (
حقوق النساء في الإسلام ) ) بينت في مقدمته حالهن قبل البعثة المحمدية عند أمم الأرض إجمالا بقولي : ( ( كانت المرأة تشترى وتباع ، كالبهيمة والمتاع ، وكانت تكره على الزواج وعلى البغاء ، وكانت تورث ولا ترث ، وكانت تملك ولا تملك ، وكان أكثر الذين يملكونها يحجرون عليها التصرف فيما تملكه بدون إذن الرجل ، وكانوا يرون للزوج الحق في التصرف بمالها من دونها ، وقد اختلف الرجال في بعض البلاد في كونها إنسانا ذا نفس وروح خالدة كالرجل أم لا ؟ وفي كونها تلقن الدين وتصح منها العبادة أم لا ؟ وفي كونها تدخل الجنة أو الملكوت في الآخرة أم لا ؟ فقرر أحد المجامع في
رومية أنها حيوان نجس لا روح له ولا خلود ، ولكن يجب عليها العبادة والخدمة ، وأن يكم فمها كالبعير والكلب العقور لمنعها من الضحك والكلام ، لأنها أحبولة الشيطان ، وكانت أعظم الشرائع تبيح للوالد بيع ابنته ، وكان بعض العرب يرون أن للأب الحق في قتل بنته بل في وأدها - دفنها حية - أيضا . وكان منهم من يرى أنه لا قصاص على الرجل في قتل المرأة ولا دية ) ) .
وكتبت في مقدمة الكلام على
حقوق النساء المالية في الإسلام ما مختصره :
( ( قد أبطل الإسلام كل ما كان عليه العرب والعجم من حرمان النساء من التملك أو التضييق عليهن في التصرف بما يملكن ، واستبداد أزواج المتزوجات منهن بأموالهن ، فأثبت لهن حق الملك بأنواعه والتصرف بأنواعه المشروعة ، فشرع الوصية والإرث لهن كالرجال ، وزادهن ما فرض لهن على الرجال من مهر الزوجية والنفقة على المرأة وأولادها وإن كانت غنية ، وأعطاهن حق البيع والشراء والإجارة والهبة والصدقة وغير ذلك . ويتبع ذلك حقوق الدفاع عن مالها كالدفاع عن نفسها بالتقاضي وغيره من الأعمال ، وأن المرأة الفرنسية لا تزال إلى اليوم مقيدة بإرادة زوجها في جميع التصرفات المالية ، والعقود القضائية ) )
[ ص: 233 ] وإنني ألخص من ذلك الكتاب المسائل الآتية بالإيجاز :
( 1 ) كان بعض البشر من الإفرنج وغيرهم يعدون المرأة من الحيوان الأعجم أو من الشياطين لا من نوع الإنسان ، وبعضهم يشك في ذلك ، فجاء
محمد - صلى الله عليه وسلم - يتلو عليهم قول الله تعالى : (
ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) ( 49 : 13 ) الآية : وقوله : (
خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ( 4 : 1 ) وما في معناهما .
( 2 ) كان بعض البشر في
أوربة وغيرها يرون أن المرأة لا يصح أن يكون لها دين ، حتى كانوا يحرمون عليها قراءة الكتب المقدسة رسميا ، فجاء
الإسلام يخاطب بالتكاليف الدينية الرجال والنساء معا بلقب المؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات .
كان أول من آمن
بمحمد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - امرأة ، وهي زوجه
nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - وقد ذكر الله تعالى مبايعته - صلى الله عليه وسلم - للنساء في نص القرآن ثم بايع الرجال بما جاء فيها ، ولما جمع القرآن في مصحف واحد جمعا رسميا وضع عند امرأة هي
nindex.php?page=showalam&ids=41حفصة أم المؤمنين ، وظل عندها من عهد الخليفة الأول
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر الصديق إلى عهد الخليفة الثالث
عثمان - رضي الله عنهم - فأخذ من عندها واعتمدوا عليه في نسخ المصاحف الرسمية التي كتبت وأرسلت إلى الأمصار لأجل النسخ عنها والاعتماد عليها .
( 3 ) كان بعض البشر يزعمون أن المرأة ليس لها روح خالدة فتكون مع الرجال المؤمنين في جنة النعيم في الآخرة - وهذا الزعم أصل لعدم تدينها - فنزل القرآن يقول : (
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) ( 4 : 123 و 124 ) ويقول : (
فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) ( 3 : 195 ) الآية . وفيها الوعد الصريح بدخول الفريقين جنات تجري من تحتها الأنهار .
( 4 ) كان بعض البشر يحتقرون المرأة فلا يعدونها أهلا للاشتراك مع الرجال في المعابد الدينية والمحافل الأدبية ، ولا في غيرهما من الأمور الاجتماعية والسياسية والإرشادات الإصلاحية ، فنزل القرآن يصارحهم بقوله تعالى : (
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) ( 9 : 71 ) الآية . ثم قال : (
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) ( 9 : 72 ) فراجع تفسيرهما في ص 466 وما بعدها ج 10 ط الهيئة .
[ ص: 234 ] ( 5 ) كان بعض البشر يحرمون النساء من حق الميراث وغيره من التملك ، وبعضهم يضيق عليهن حق التصرف فيما يملكن ، فأبطل الإسلام هذا الظلم وأثبت لهن حق التملك والتصرف بأنفسهن في دائرة الشرع ، قال الله تعالى : (
للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) ( 4 : 7 ) وقال : (
للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) ( 4 : 32 ) .
ونحن نرى أن دولة
الولايات المتحدة الأميريكية لم تمنح النساء حق التملك والتصرف إلا من عهد قريب في عصرنا هذا ، وأن المرأة الفرنسية لا تزال مقيدة بإرادة زوجها في التصرفات المالية والعقود القضائية ، وقد منحت المرأة المسلمة هذه الحقوق منذ ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن .
( 6 ) كان الزواج في قبائل البدو وشعوب الحضارة ضربا من استرقاق الرجال للنساء ، فجعله الإسلام عقدا دينيا مدنيا ؛ لقضاء حق الفطرة بسكون النفس من اضطرابها الجنسي بالحب بين الزوجين ، وتوسيع دائرة المودة والألفة بين العشيرتين ، واكتمال عاطفة الرحمة الإنسانية وانتشارها من الوالدين إلى الأولاد ، على ما أرشد إليه قوله تعالى : (
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) ( 30 : 21 ) .
( 7 )
القرآن ساوى بين المرأة والرجل باقتسام الواجبات والحقوق بالمعروف ، مع جعل حق رياسة الشركة الزوجية للرجل لأنه أقدر على النفقة والحماية بقول الله عز وجل في الزوجات : (
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ) ( 2 : 228 ) وقد بين هذه الدرجة بقوله تعالى : (
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) ( 4 : 34 ) فجعل من واجبات هذه القيامة على الزوج نفقة الزوجة والأولاد لا تكلف منه شيئا ولو كانت أغنى منه ، وزادها المهر فالمسلم يدفع لامرأته مهرا عاجلا مفروضا عليه بمقتضى العقد ، حتى إذا لم يذكر فيه لزمه فيه مهر مثلها في الهيئة الاجتماعية ، ولهما أن يؤجلا بعضه بالتراضي ، على حين نرى بقية الأمم حتى اليوم تكلف المرأة دفع المهر للرجل .
وكان أولياء المرأة يجبرونها على التزوج بمن تكره ، أو يعضلونها بالمنع منه مطلقا ، وإن كان زوجها وطلقها فحرم الإسلام ذلك ، والنصوص في هذا معروفة في كلام الله وكلام رسوله وسنته وتقدم بيانها في الجزء الثاني من التفسير .
( 8 ) كان الرجال من العرب وبني إسرائيل وغيرهم من الأمم يتخذون من الأزواج ما شاءوا غير مقيدين بعدد ، ولا مشترط عليهم فيه العدل ، فقيدهم الإسلام بألا يزيدوا
[ ص: 235 ] على أربع ، وأن من خاف على نفسه ألا يعدل بين اثنين وجب عليه الاقتصار على واحدة ، وإنما أباح الزيادة لمحتاجها القادر على النفقة والإحصان ؛ لأنها قد تكون ضرورة من ضرورات الاجتماع ولا سيما حيث يقل الرجال ويكثر النساء .
وقد فصلنا ذلك في تفسير آية التعدد من سورة النساء ، ثم زدنا عليه في كتاب ( حقوق النساء في الإسلام ) ما هو مقنع لكل عاقل منصف بأن
ما شرعه الإسلام في التعدد هو عين الحق والعدل ومصلحة البشر .
( 9 )
الطلاق قد يكون ضرورة من ضروريات الحياة الزوجية ، إذا تعذر على الزوجين القيام بحقوق الزوجية من إقامة حدود الله وحقوق الإحصان والنفقة والمعاشرة بالمعروف ، وكان مشروعا عند أهل الكتاب والوثنيين من العرب وغيرهم ، وكان يقع على النساء منه وفيه ظلم كثير وغبن يشق احتماله ، فجاء الإسلام فيه بالإصلاح الذي لم يسبقه إليه شرع ولم يلحقه بمثله قانون ، وكان الإفرنج يحرمونه ويعيبون الإسلام به ، ثم اضطروا إلى إباحته ، فأسرفوا فيه إسرافا منذرا بفوضى الحياة الزوجية وانحلال روابط الأسرة والعشيرة .
جعل الإسلام عقدة النكاح بيد الرجال ، ويتبعه حق الطلاق لأنهم أحرص على بقاء الزوجية بما تكلفهم من النفقات في عقدها وحلها ، وكونهم أثبت من النساء جأشا وأشد صبرا على ما يكرهون ، وقد أوصاهم الله تعالى على هذا بما يزيدهم قوة على ضبط النفس وحبسها على ما يكرهون من نسائهم فقال : (
وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) ( 4 : 19 ) على أن الشريعة تعطي المرأة حق اشتراط جعل عصمتها بيدها لتطلق نفسها إذا شاءت ، وأعطتها حق طلب فسخ عقد الزواج من القاضي إذا وجد سببه من العيوب الخلقية أو المرضية كالرجل ، وكذا إذا عجز الزوج عن النفقة . وجعلت للمطلقة عليه حق النفقة مدة العدة التي لا يحل لها فيها الزواج ، وذم النبي - صلى الله عليه وسلم - الطلاق بأن الله يبغضه للتنفير عنه إلى غير ذلك من الأحكام التي بيناها في تفسير الآيات المنزلة فيها ، وفي كتابنا الجديد في حقوق النساء في الإسلام .
( 10 ) بالغ الإسلام في
الوصية ببر الوالدين فقرنه بعبادة الله تعالى ، وأكد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه حق الأم فجعل برها مقدما على بر الأب ، ثم بالغ في الوصية بتربية البنات وكفالة الأخوات ، بأخص مما وصى به من صلة الأرحام ، بل جعل لكل امرأة قيما شرعيا يتولى كفايتها والعناية بها ومن ليس لها ولي من أقاربها وجب على أولي الأمر من حكام المسلمين أن يتولوا أمرها .
وجملة القول : أنه ما وجد دين ولا شرع ولا قانون في أمة من الأمم أعطى النساء ما أعطاهن
[ ص: 236 ] الإسلام من الحقوق والعناية والكرامة ، أفليس هذا كله من دلائل كونه من وحي الله العليم الحكيم الرحيم
لمحمد النبي الأمي المبعوث في الأميين ؟ بلى وأنا عن ذلك من الشاهدين المبرهنين ، والحمد لله رب العالمين .