(
فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ) أي : فإن زللتم وحدتم عن صراط الله - وهو السلم - إلى خطوات الشيطان - وهي طرق الخلاف والافتراق والباطل والشر - من بعد أن بين الله تعالى لكم أن سبيله واحدة وهي السلم ، وأن الشيطان لكم عدو مبين ، وأمركم أن تتخذوه عدوا وتجتنبوا طرقه وخطواته ، ثم فصل لكم من ذلك ما اضطررتم إليه ، وأكد النهي عن شر تلك الطرق وأشأمها وهي طرق التفرق والخلاف ، فاعلموا أن أمامكم أمرا جليلا ، وأخذا وبيلا; ذلك أن الله تعالى لعزته لا ينسى من ينسى سننه ويزل عن شريعته; بل يأخذه أخذ عزيز مقتدر ، ولحكمته قد وضع تلك السنن في الخليقة ، وهدى إليها الناس بما أنزل من الشريعة ، ومن ذلك أن جعل لكل ذنب عقوبة ، وجعل العقوبة على ذنوب الأمم أثرا من آثارها لازما لها حتما ، فكأنه تعالى قال : فاعلموا أنه يحل بكم العقاب; لأنه عزيز لا يغلب على أمره ، وحكيم لا يهمل أمر خلقه ، ولكن هذا التعبير أبلغ ؛ لأنه بيان للحجة ، وتقرير للبرهان بالإشارة إلى مقدماته اكتفاء به عن ذكر النتيجة ، وهو من ضروب إيجاز القرآن التي لم تعهد في كلام إنسان .
[ ص: 209 ] قال الأستاذ الإمام : إنه ذكر من صفاته تعالى ما هو دليل العقاب وهو ما لا مطمع في زواله ، ولا هزء في الدين أكبر من ظن المغرور أنه ينال جنة عرضها السماوات والأرض وفيها من النعيم والرضوان ما لم يخطر على قلب بشر بغير الأعمال التي أرشدت إليها آيات الله تعالى ، مبينة أن العقوبات على تركها من آثار صفاته القديمة التي لا يلحقها تغيير ، ولا تؤثر فيها الحوادث بتبديل ولا تحويل اهـ .
ونقول نحن على طريقته : إن ظن المغرورين بأنه يكون لهم السلطات والخلافة في الأرض بمجرد دعوى الإيمان والإسلام - ولو مع بعض الأعمال البدنية من غير إقامة العدل في الناس والعمارة والإصلاح في الأرض - هو من الهزء بآيات الله في كتابه ، وآياته في خلقه ، فإنها متفقة على أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون لعمارتها وإقامة العدل فيها (
وما كان ربك ليهلك القرى ) أي : الأمم ( بظلم ) منهم أي : شرك وكفر ، أو منه لهم (
وأهلها مصلحون ) ( 11 : 117 ) أي : والحال أنهم مصلحون في أعمالهم وسياستهم، وإنما يهلكها إذا ظلموا وأفسدوا فيها .
والآيتان المفسرتان آنفا وما في معناهما كقوله تعالى : (
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) إلى قوله : (
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) ( 3 : 103 - 105 ) وقوله : (
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ( 6 : 159 ) كلها هادمة للتقاليد التي فرقت الأمة وجعلتها شيعا ، حتى صار بأسها بينها شديدا فسفكت دماءها بأيديها ، ومزقت دنياها بتمزيق دينها ، وكان من أمرها بعد ذلك ما نرى سوء عاقبته في كل شعب وكل قطر .