[ ص: 241 ] (
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ) .
افتتح السورة بذكر آيات الكتاب ، الناطق بالحكمة وفصل الخطاب وأنكر على الناس عجبهم أن يوحي ربهم إلى رجل منهم أن يعلمهم به ما لا يعلمون من الدين الذي فيه سعادتهم ، منذرا من كفر بالعقاب ، ومبشرا من آمن بالثواب وحكى عن الكافرين وصفهم لهذا الكتاب الحكيم وللرسول الذي جاء به بالسحر ؛ إذ كان كل منهما من خوارق العادات ، وقد جاء في البشر مشعوذون ودجالون يأتون بعض الخوارق التي لا يعرف الجماهير أسبابها ، فرأوا أن هذا الكتاب المعجز للبشر بأسلوبه وبلاغته ، وبعلمه وحكمته ، وبتأثيره في العقول والقلوب ، يصح أن يكون أو يوصف بأنه من هذا السحر المعهود وجوده ، المجهول سببه وأن هذا الرجل الذي جاء به لم يعرف عنه قبله شيء من بلاغة القول ، ولا من حكمة التشريع ، والعلم ، يصح أن يعد منتحلا للسحر ، ولكن السحر لم يكن في يوم من الأيام حقائق علمية ولا هداية نافعة كما تقدم ، والسحرة لم يكونوا إلا أناسا من المتكسبين بإطلاع الناس على غرائبهم المجهولة لهم ، فأين هذا وذاك من القرآن ومن جاء به ، من حقائق ساطعة ، وهو لا يسأل عليها أجرا ولا يبتغي بها لنفسه نفعا إذ هي باقية بنفسها وبآثارها النافعة ، والسحر باطل لا بقاء له ؟ فالمتعين عند العقل أن يكون ما فيها من العلو على كلام البشر ، والإعجاز الذي قامت به الحجة بالتحدي ، وحيا من رب العالمين ونعمة منه عليهم بهداية الدين ، الذي هو لجملتهم ، كالعقل لأفرادهم ، ووجب على كل من يؤمن بهذا الرب العليم الحكيم ، البر الرحيم ، أن يؤمن بأن هذا من حكمة ربوبيته ورحمته بالعالمين ، وإلا كانت صفاته ناقصة بحرمان هذا الإنسان من هذا النوع الأعلى من العرفان ، والبينات من الهدى والفرقان ، ولذلك قفى حكاية عجبهم وما عللوه به ، من التذكير بالحجة التي تنقضه من أساسه ، فقال عز وجل : (
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ) هذه الآية دليل على تفنيدهم في عجبهم من وحي القرآن ، وبيان للربوبية التي يقتضي كمالها ثبوته وبطلان الشرك ، والخطاب فيها للناس الذين عجبوا أن يوحى إلى رجل منهم ما فيه هدايتهم بأسلوب الالتفات المنبه للذهن ، يقول لهم : إن ربكم هو الله الذي خلق العوالم السماوية التي
[ ص: 242 ] فوقكم ، وهذه الأرض التي يعيشون عليها في ستة أزمنة ثم في كل يوم منها طور من أطوارها ، فإن اليوم في اللغة هو الوقت الذي يحده حدث يحدث فيه ، وإن كان ألوف السنين من أيام هذه الأرض الفلكية التي وجدت بعد خلقها ، أي أوجدها كلها بمقادير قدرها فإن الخلق في اللغة التقدير ، ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز التدبير ، لهذا الملك الكبير ، استواء يليق بعظمته وجلاله ، وتنزيهه وكماله ، يدبر أمر ملكه ، بما اقتضاه علمه من النظام ، وحكمته من الأحكام ، فالاستواء على العرش بعد خلقهما ، وهو مخلوق له من قبلهما ، شأن من شئونه فيما لا نعلم كنهه ولا صفته من تدبير هذا الملك ، وكل يوم هو في شأن ، لا يدرك كنه شئونه إنس ولا جان .
والتدبير في أصل اللغة التوفيق بين أوائل الأمور ومبادئها ، وأدبارها وعواقبها ، بحيث تكون المبادئ مؤدية إلى ما يريد من غاياتها ، كما أن تدبر الأمر أو القول هو التفكر في دبره وهو ما وراءه وما يراد منه وينتهي إليه . ووجه دلالة هذه الجملة على ما ذكر أن الرب الخالق المدبر لجميع أمور الخلق ، لا يستنكر من تربيته لعباده وتدبيره لأمورهم ، أن يفيض ما شاء من علمه على من اصطفى من خلقه ، ما يهديهم به لما فيه كمالهم وسعادتهم من عبادته وشكره وصلاح أنفسهم ، بل يجب على العاقل العالم بهذا التدبير والتقدير الذي تشهد به آياته تعالى في السماوات والأرض ، أن يؤمن بأن هذا الوحي منه عز وجل ، إذ هو من كمال تقديره وتدبيره ، ولا يقدر عليه غيره . وقد ذكرنا في تفسير آية الأعراف التي بمعنى هذه الآية ( 7 : 54 ) الاختلاف بين علماء الكلام المبتدع ، وأئمة السلف وأتباعهم من علماء الأثر في مسألة الاستواء على العرش وأشباهها من آيات علو الخالق تعالى فوق خلقه وسائر صفاته ، وحققنا أن مذهب السلف هو الحق الجامع بين النقل والعقل .
ثم قال : (
ما من شفيع إلا من بعد إذنه وهذه الجملة حجة ثانية على منكري الوحي ، في ضمن حقيقة ناقضة لعقيدة الشرك ، ذلك أن مشركي العرب وغيرهم ومقلدتهم من
أهل الكتاب ، كانوا يعتقدون أن معبوداتهم من أولياء الله تعالى ، وعباده المقربين من الملائكة والبشر يشفعون لهم عند الله تعالى بما يدفع عنهم الضر ويجلب لهم النفع في الدنيا والذين يؤمنون بالآخرة من الفريقين يثبتون لهم الشفاعة في الآخرة بالأولى ، ويسمون الأصنام التي وضعت لذكرى أولئك الأولياء شفعاء أيضا بالتبع ، وسيأتي في ( الآية 18 ) من هذه السورة حكاية ما يقولونه في هذه الشفاعة . ويقال في بيان وجه الحجة عليهم فيها : إنكم إذا كنتم تؤمنون بأن لله شفعاء من أوليائه وعباده المقربين يشفعون لكم عنده بما يقربكم إليه زلفى ويدفع عنكم الضر ويجلب لكم النفع - وهو قول منكم على الله تعالى بغير علم - فما لكم تنكرون وتعجبون أن يوحي تعالى إلى من يشاء ، ويصطفي من هؤلاء العباد من يعلمكم من العلم ما يهديكم إلى العمل
[ ص: 243 ] الموصل إلى كل ما تطلبونه من هؤلاء الشفعاء باستحقاق بدون عمل منكم ولا استحقاق لما تطلبون منهم ؟ .
وأما الحقيقة الناقضة لعقيدة الشرك في الشفاعة ، فهي أنه
لا يمكن أن يوجد شفيع يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه ، كما قال في سورة البقرة : (
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ( 2 : 255 ) وليس لأحد حق في الإخبار عنه تعالى بمن يشفع عنده ومن يقبل شفاعته إلا بإعلام منه ، وذلك لا يكون إلا بوحي منه . وقد ثبت في وحي هذا القرآن أنه لا يشفع أحد عنده بإذنه إلا من ارتضاه للشفاعة (
يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ) ( 20 : 109 ) وأن هؤلاء المأذون لهم بالشفاعة لا يشفعون إلا لمن كان الله تعالى راضيا عنه بإيمانه وعمله الصالح كما قال : (
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) ( 21 : 28 ) مصداقا لقوله : (
قل لله الشفاعة جميعا ) ( 39 : 44 ) .
(
ذلكم الله ربكم فاعبدوه ) احتجاج بما يؤمنون به من وحدانية الربوبية ، على شركهم في وحدانية الألوهية ، أي ذلك الموصوف بالخلق والتقدير ، والحكمة والتدبير ، والتصرف في أمر الشفاعة يأذن بها لمن شاء فيما شاء هو الله ربكم ومتولي أمور العالم ومنها أموركم ، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا ، ولا معه أحدا ، لا لأجل الشفاعة ، ولا لأجل مطلب آخر من مطالبكم ، فالشفعاء لا يملكون لكم من دونه نفعا ولا ضرا ، وإنما يملك ذلك ربكم وحده ، وقد هداكم إلى أسباب الضر والنفع الكسبية بعقولكم ومشاعركم وسخرها لكم ، وهداكم إلى أسباب النفع والضر الغيبية بوحيه وأقدركم عليها ، وكل ما يطلب من المنافع والمضار فإنما يطلب من أسبابه التي سخرها تعالى وبينها لكم ، وما عجز عنه العبد أو جهله من ذلك فالواجب عليه أن يدعو الله تعالى وحده فيه ، وهذا هو الركن الأول للدين الإلهي . أفلا تذكرون أي أتجهلون هذا الحق المبين ، فلا تتذكرون أن الذي خلق السماوات والأرض وحده ، واستوى على عرش الملك يدبر الأمور وحده ، ولا يمكن أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه ، هو ربكم الذي يجب أن تعبدوه وألا تعبدوا غيره ؟ وهو مقتضى الفطرة ، وما إنكاره إلا ضرب من الغفلة علاجها التذكير .
هذا الاستفهام التعجيبي من غفلة المشركين منكري الوحي عن هذه الحقيقة ، وهي أنه لا يستحق العبادة من الخلق أحد إلا ربهم وخالقهم ومدبر أمورهم ، يوجه بالأولى إلى المؤمنين بالقرآن من القبوريين وعباد الصالحين ، كيف لا يتذكرون هذه الآيات وأمثالها كلما شعروا بالحاجة إلى ما عجزوا عنه بكسبهم من دفع ضر أو جلب نفع ؟ إذ نراهم يوجهون وجوههم إلى قبور المشهورين من الصالحين في بلادهم ، ويشدون الرحال إلى ما بعد منها عنهم ، ويتقربون إليها بالنذور ويطوفون بها كما يطوف الحجاج ببيت الله عز وجل ، داعين متضرعين
[ ص: 244 ] مستغيثين خاشعين ، وهذا مخ العبادة وروحها وأجلى مظاهرها ، ولا ترى مثله من أحد ممن يصلي منهم في صلاة الجماعة ولا صلاته منفردا في بيته ، على أن أكثرهم لا يصلون ولا يعتقدون أن الصلاة تنفعهم كهذه القبور ، ذلك بأن أكثرهم يجهلون هذه الآيات وأمثالها من القرآن ، وإنما يتلقون عقائد دينهم بالعمل والقول من آبائهم وأمهاتهم ومعاشريهم ، وهم قبوريون لا يعرفون ملجأ ولا ملتحدا عند الشدائد والشعور بالحاجة إلى السلطان الرباني الغيبي إلا هذه القبور ، وأقلهم يتلقون بعض كتب العقائد الكلامية الجافة ممن ألفوا عبادة القبور قبل أن يقرءوها ، وأكثرهم يتأولون لأنفسهم وللعوام تلك العبادة ويسمونها بغير اسمها كالتوسل والاستشفاع ، وحجتهم عليها نفس حجة المشركين وأهل الكتاب ، لا فرق إلا في بعض الألفاظ وأسماء الأشخاص .