(
إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) .
هذه الآية بيان للركن الثاني من أركان الدين وهو البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال .
يقول تعالى : (
إليه مرجعكم جميعا ) أي إلى ربكم دون غيره من معبوداتكم وشفعائكم وأوليائكم ترجعون جميعا بعد الموت وفناء هذا العالم الذي أنتم فيه ، لا يتخلف منكم أحد (
وعد الله حقا ) أي وعد الله هذا وعدا حقا لا يخلف (
إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) هذا بيان لمتعلق الوعد المؤكد مرتين بدليله ، أي إن شأنه تعالى أن يبدأ الخلق وينشئه عند التكوين ، ثم يعيده في نشأة أخرى بعد انحلاله وفنائه ، فالتعبير بفعل المستقبل (
يبدأ ) لتصوير الشأن ، وهو يشمل الماضي والمستقبل ، ولفظ الخلق عام يراد به الخاص أولا وبالذات ، بدليل ما قبله وما بعده من السياق ، وقد أجمع علماء الكون الماديون منهم والروحيون على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية ، ما يرى منها بالأبصار والآلات المقربة للأبعاد وما لا يرى ، كلها قد وجدت بعد أن لم تكن . وإن كانوا لا يزالون يبحثون في نشأة تكوينها والقوة الأزلية المتصرفة في أصل مادتها ، كما أنهم متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة معها في هذا النظام الشمسي الجامع لها ، على أن أقرب الأسباب الموافقة لأصول العلم الثابتة أن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية فتبسها بسا ، حتى تكون هباء منبثا ، كما تشير إليه سورة القارعة والواقعة وغيرهما .
[ ص: 245 ] فأما بدؤه فقد حصل بالفعل ، وأما إعادته فدليلها أن القادر على البدء يكون قادرا على الإعادة بالطريق الأولى ، كما قال في سورة الروم : (
وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) ( 30 : 27 ) الآية . ومن المسائل المتفق عليها عند علماء الكون في هذا العصر - وهي تقرب إلى العقول عقيدة البعث - أن هذه الأجساد الحية ينحل منها في كل وقت ما يتبخر في الهواء وما يموت في داخل الجسم ثم يخرج منه ، ويحل محل كل ما يزول ويندثر مواد حية جديدة حتى يفنى جسد كل حيوان ، فهو يزول في سنين قليلة ويتجدد غيره ، فالبدء والإعادة في كل جسد دائمان ما دام حيا ، وقد فصلنا مسألة البعث بالبيان العلمي في تفسير سورة الأعراف ( ص 417 - 427 ج 8 ط الهيئة ) (
ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ( هذا تعليل للإعادة ، أي يعيده لأجل جزائهم ، والقسط : العدل ، وقال
الراغب : النصيب من العدل ، أي ليجزيهم بعدله وهو عبارة عن إعطاء كل عامل حقه من الثواب الذي جعله الله لعمله ، بمعنى أنه لا يظلم منه شيئا كما قال في سورة الأنبياء : (
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ) ( 21 : 47 ) الآية . ولا يمنع ذلك أن يزيدهم ويضاعف لهم كما وعد في آيات أخرى منها قوله : (
فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) ( 4 : 173 ) وقوله في هذه السورة : (
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ( 26 ) فالحسنى هي الجزاء بالقسط المضاد للجور والظلم . والزيادة فضل منه عز وجل . وسيأتي فيها أيضا قوله : (
قضي بينهم بالقسط ) ( 10 : 47 ، 54 ) وقيل : إن المراد يجزيهم بما كانوا عليه من القيام بالقسط وهو الحق والعدل في الأمور كلها ، الذي هو مقتضى الإيمان في قوله تعالى : (
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) ( 57 : 25 ) وقوله : (
قل أمر ربي بالقسط ) ( 7 : 29 ) على أن القسط في الآيتين عام شامل لأمور الدين كلها ، وقيل : بل المراد منه الإيمان أو التوحيد المقابل لظلم الشرك في قوله تعالى : (
إن الشرك لظلم عظيم ) ( 31 : 13 ) والمتبادر الموافق لسائر الآيات الصريحة هو الأول ، ولا يصح إرادة الثاني إلا بالتبع للأول ، أو الجمع بين المعنيين على القول بأن كل ما يحتمله اللفظ من المعاني المشتركة فيه أو حقيقته ومجازه بمقتضى اللغة من غير مانع من الشرع يكون مرادا منه .
(
والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) الحميم : الماء الحار أو الشديد الحرارة الذي يستحم به ، والعرق ، يقال : استحم الفرس إذا عرق ، والحمام الذي هو مكان الاستحمام من الأول أو من الثاني . والجملة بيان لجزاء الكافرين في مقابلة جزاء المؤمنين الصالحين على منهج القرآن في الجمع بينهما . والمعنى : أن الكافرين لهم من الجزاء شراب من ماء حميم يقطع أمعاءهم وعذاب شديد الألم ( وهذا من عطف العام على الخاص ) ونكتة هذا الخاص أن العرب الذين خوطبوا به أولا ونزل بلغتهم - ولا سيما عرب
[ ص: 246 ] الحجاز - يشعرون بما لا يشعر غيرهم من الوعيد بشرب الماء الحميم والحرمان من الماء البارد - وإنما كان لهم هذا الجزاء بسبب ما كانوا يعملون من أعمال الكفر المستمرة إلى الموت ، كدعاء غير الله تعالى والنذر لغيره وذبح القرابين لغيره ، وسائر الأعمال السيئة التي يزينها لهم الكفر ويصد عنها الإيمان ، فقوله : (
والذين كفروا ) مقابل لقوله : الذين آمنوا وقوله : (
بما كانوا يكفرون ) مقابل لقوله : (
وعملوا الصالحات ) لأن الذي يتجدد من الكفر أعماله لا عقيدته . على أن العمل بمقتضى العقيدة هو أثرها ، يزيدها قوة ورسوخا واستمرارا ، وسيعاد ذكر جزاء الفريقين بعد آيتين بتفصيل آخر لعملهما .
ولعل نكتة اختلاف النظم أو الأسلوب - في جزاء الفريقين وتعليل الرجوع إليه تعالى هنا - هي إفادة أن المقصود بالذات من الرجوع إلى الله تعالى هو جزاء المؤمنين الصالحين ؛ لأنه هو الذي يكون به منتهى كمال الارتقاء البشري للذين زكوا أنفسهم في الدنيا بما يكون لهم في الجنة من غلبة سلطان الأرواح على الأجساد ، وجعلها تابعة لها في الجمع بين خصائص المادة والروح الذي هو حقيقة الإنسانية ، فيلقى الإنسان الكامل هنالك من النعيم المادي الخالي من الشوائب والتنغيص الذي عهده في الدنيا ، ومن النعيم الروحاني المعبر عنه برضوان الله الأكبر - كما تقدم في آية سورة التوبة : 72 - ما يتحقق به فضل الإنسانية الجامعة ، على الروحانية الخالصة ، وما أعده تعالى لصاحبها مما لا يعلم كنهه في هذه الحياة أحد ، كما قال تعالى في سورة الم السجدة (
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) ( 32 : 17 ) وما فسرت به في الحديث القدسي : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918614أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) ) رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، وأعلاه مقام رؤية الله عز وجل كما شرحناه في تفسير آية سورة الأعراف ( 7 : 143 ) وأدناه ما سيأتي قريبا في الآية التاسعة .
وأما جزاء الكافرين المفسدين الظالمين لأنفسهم وللناس ، على تدسيتهم وتدنيسهم لأنفسهم بالكفر والخطايا - وهي لها كأعراض الأمراض التي سببها مخالفة سنة الله في حفظ الأبدان وصحتها - فليس من المقاصد التي اقتضتها الحكمة الإلهية في خلق الإنسان ، ولكنها مقتضى العدل في المظالم والحقوق ، ومقتضى اطراد السنن الحكيمة في ارتباط الأسباب بالمسببات ، والعلل بالمعلولات ، فهو جزاء كما صرح به في آيات أخرى ، ولكنه ليس المقصود بالذات من الرجوع إلى الله عز وجل .
وقد سألني رجل من أذكياء الإنكليز : هل يليق بعظمة الله أن يعذب هذا الإنسان الضعيف على ذنوبه التي هي مقتضى ضعفه ؟ قلت إن الشرك بالله والكفر بنعمه ، واقتراف الخطايا المخالفة لشرائعه وللوجدان الفطري في الإنسان ، تدنس نفس فاعلها وتفسدها بما يجعلها غير أهل للنعيم الروحاني الخاص بالأنفس الزكية ، فيكون العقاب في الآخرة أثرا طبيعيا
[ ص: 247 ] لهذا الفساد ، كما يكون المرض أثرا طبيعيا لمخالفة قوانين الصحة ووصايا الطبيب . فقال : إذا كان سبب العذاب من الداخل لا من الخارج فهو معقول .