(
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) .
[ ص: 258 ] بين الله تعالى في الآيتين السابقتين شأنه في الناس وشأنهم معه بمقتضى الطبع البشري وطغيان الشرك والكفر ؛ ليعتبر به مشركو
مكة وغيرهم ممن يعقله ؛ إذ هو من العلم الصحيح المستمد من طبع الإنسان وسيرته ، وقفى عليه في هاتين الآيتين بمصداقه من سيرة الأمم الماضية وسنته تعالى فيهم فقال عاطفا له على ما قبله : (
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ) الخطاب لأمة الدعوة المحمدية ، وجه أولا وبالذات إلى قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل وطنه
مكة إذ أنزلت السورة فيها ، فهو التفات يفيد مزيد التنبيه وتوجيه أذهان المخاطبين لموضوعه ، والقرون : الأمم ، وهو جمع قرن بالفتح ، ومعناه القوم المقترنون في زمن واحد ، وقد ذكر إهلاك القرون في آيات عديدة من السور المكية ، وبدأ هذه بتأكيد القسم المدلول عليه باللام " ولقد " وصرح بأن سبب هلاكهم وقوع الظلم منهم ، كما قال في سورة الكهف : (
وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ) ( 18 : 59 ) ولما ظرف يدل على وقوع فعل لوقوع غيره مما هو سبب له ، والمراد بالقرى الأمم والقرون كما تقدم مرارا ، وقال في سورة هود : (
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( 11 : 102 ) وقد بعث الله الرسل في أهل الحضارة دون الهمج .
وإهلاك الله الأمم بالظلم نوعان :
( أحدهما ) هو مقتضى سنته في نظام الاجتماع البشري ، وهي أن الظلم سبب لفساد العمران وضعف الأمم ، ولاستيلاء القوية منها على الضعيفة استيلاء موقتا ، إن كان إفساد الظلم لها عارضا لم يجهز على استعدادها للحياة واستعادتها للاستقلال ، كما تقدم في تفسير : (
فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ) ( 2 : 243 ) من سورة البقرة ، أو دائما إن كانت غير صالحة للحياة حتى تنقرض أو تدغم في الغالبة . كما قال في سورة الأنبياء : (
وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ) ( 21 : 11 ) الآيات - وهذا النوع أثر طبيعي للظلم بحسب سنن الله في البشر ، وهو قسمان : ظلم الأفراد لأنفسهم بالفسوق والإسراف في الشهوات المضعفة للأبدان المفسدة للأخلاق ، وظلم الحكام الذي يفسد بأس الأمة في جملتها وهذه السنة دائمة في الأمم ، ولها حدود ومواقيت تختلف باختلاف أحوالها وأحوال أعدائها ، هي آجالها المشار إليها في الآية ( 49 ) الآتية وأمثالها .
( ثانيهما ) عذاب الاستئصال للأقوام التي بعث الله تعالى فيها رسلا لهدايتها بالإيمان والعمل الصالح وأعظم أركانه العدل ، فعاندوا الرسل ، فأنذروهم عاقبة الجحود والعناد بعد مجيء الآيات ، وهو ما بينه تعالى بقوله : (
وجاءتهم رسلهم بالبينات ) الدالة على صدقهم فيما
[ ص: 259 ] جاءوهم به وما كانوا ليؤمنوا ، أي وما كان من شأنهم ولا مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا ؛ لأنهم مرنوا على الكفر ، واطمأنوا به ، وصارت لذاتهم ومصالحهم القومية من الجاه والرياسة والسياسة مقترنة بأعماله الإجرامية من ظلم وفسق وفجور ، كذلك نجزي القوم المجرمين : تذييل لإنذار مشركي
مكة لأنهم كانوا مجرمين ، وتقديره كالذي مر قبله في المسرفين ، وراجع تفسير : (
وكذلك نجزي المجرمين ) ( 7 : 40 ) وتفسير : (
فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) ( 7 : 84 ) من سورة الأعراف . م
(
ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ) الخطاب معطوف على الذي قبله ، أي ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعد أولئك الأقوام كلهم بما آتيناكم في هذا الدين من أسباب الملك والحكم وقدرناه لكم باتباعه ، إذ كان الرسول الذي به جاءكم هو خاتم النبيين ، فلا يوجد بعد أمته أمة أخرى لنبي آخر ، والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف غيره في الشيء أي يكون خلفه فيه ، ولقد كان لتلك الأمم دول وحكم في الأرض ، كملك
النصارى واليهود والمجوس ، والوثنيين من قبلهم
كالفراعنة والهنود ، فالله يبشر قوم
محمد وأمة
محمد بأنها ستخلفهم في الأرض ، إذا آمنت به واتبعت النور الذي أنزل معه ، كما صرح بذلك في قوله : (
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) ( 24 : 55 ) الآية ، وقد علل هذا الاستخلاف عند الإخبار الأول به هنا بقوله : (
لننظر كيف تعملون ) أي لنرى ونشاهد أي عمل تعملون في خلافتكم ، فنجازيكم به بمقتضى سنتنا فيمن قبلكم ، فإن هذه الخلافة إنما جعلها لكم لإقامة الحق والعدل في الأرض وتطهيرها من رجس الشرك والفسق ، لا لمجرد التمتع بلذة الملك ، كما قال في أول آيات الإذن لهم بالقتال : (
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) ( 22 : 41 ) فأعلمهم سبحانه بأن أمر بقاء خلافتهم منوط بأعمالهم ، وأنه تعالى يكون ناظرا إلى هذه الأعمال لا يغفل عنهم فيها ، حتى لا يغتروا بما سينالونه ، ويظنوا أنه باق لهم لذاتهم أو لنسبتهم إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنهم يتفلتون من سنته في الظالمين وقد بينها لهم آنفا ، وقال في سورة الأعراف : (
أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ) ( 7 : 100 ) الآية ، وقد قص علينا فيها ما حذر به قوم
موسى عندما وعدهم على لسانه بإرث الأرض التي وعد بها آباءهم ، في إثر ما شكوا إليه من إيذاء قوم
فرعون لهم قبل مجيئه وبعده ، وذلك قوله تعالى حكاية عنه : (
قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) ( 7 : 129 ) .
وليراجع القارئ تفسير آية الأعراف في الجزء التاسع ، وتفسير قوله تعالى في استخلاف الأمم العام من آخر سورة الأنعام : (
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم )
[ ص: 260 ] الآية رقم 165 ص 220 ج 8 ط الهيئة وقد صدق الله وعده ووعيده للمسلمين كغيرهم ، بما تبين به إعجاز كتابه وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وكونه ربى أمته بما علمه ربه من هداية الدين وطبائع العمران وسنن الاجتماع ، التي لم يكن يعلمها هو ولا قومه الأميون ، بل لم تصر علما مدونا إلا من بعد نزول القرآن بعدة قرون ؛ لغفلة علماء المسلمين عما فيه من أصولها وقواعدها الصريحة كهذه الآيات . وقد كان أول من دونها المؤرخ الفقيه
عبد الرحمن بن خلدون في مقدمة تاريخه ؛ مؤملا أن يعنى بها من بعده من العلماء فيأتوا بتوسيع ما بدأ به من مباحثها ، ولكن العلم والحكم في دولة الإسلام ، كان داخلا في طور الانحطاط والاضمحلال ، ثم ارتقى الإفرنج فيهما فترجموا تلك المقدمة بلغتهم العلمية كلها ، وأخذوا منها عدة علوم في سنن العمران ، ونحن نأخذها اليوم عنهم غافلين عن هداية القرآن ؛ لأن علماء السوء المقلدين حجبونا عن هدايته ، بل حرموها على المسلمين استغناء عنه بكتب مذاهبهم ، فأخذهم الله بذنوبهم ، ولن يكشف عنهم انتقامه حتى يعودوا إلى هدايته التي استخلف بها سلفهم في الأرض ، ولئن عادوا إليها بإقامة سنن القرآن ، ليتمن لهم وعده بخلافة الأرض إلى آخر الزمان ، فبقدر إقامة هذه السنن يكون الملك والسلطان . فمن ذا الذي يقيمها .