(
قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ) .
[ ص: 291 ] هذا نوع آخر من أسلوب
إقامة الحجج على المشركين في إثبات التوحيد والبعث ، وهو أسلوب السؤال والجواب ، ويليه إثبات النبوة والرسالة والقرآن .
(
قل من يرزقكم من السماء والأرض ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين من أهل
مكة : من يرزقكم من السماء بما ينزله من المطر ، ومن الأرض بما ينبته فيها من أنواع النبات نجمه وشجره مما تأكلون وتأكل أنعامكم ؟ (
والأرض أمن يملك السمع والأبصار ) بل قل لهم أيضا : من يملك ما تتمتعون به أنتم وغيركم من حواس السمع والأبصار ، التي لولاها لم تكونوا تعلمون من أمر العالم شيئا ، بل تكون الأنعام والحشرات وكذا الشجر خيرا منكم باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها ، من يملك خلق هذه الحواس وهبتها للناس ، وحفظها من الآفات وخص هاتين الحاستين بالذكر لأن عليهما مدار الحياة الحيوانية وكمال البشرية ، وتحصيل العلوم الأولية ، يشعر بذلك المسئولون بمجرد إلقاء السؤال ، وكلما ازدادوا فيه تفكرا ازدادوا علما وإعجابا وإكبارا لإنعام الله تعالى بهما وإيمانا بأنه لا يقدر غيره عليهما ، ولا سيما إدراك الكلام بحاسة السمع ، وما يرسمه صوت المتكلم في الهواء من معلوماته التي يدلي بها إلى غيره فتتكيف بها كل ذرة من ذراته ( أي الهواء ) فتقرع به طبلة كل أذن من آذان السامعين وإن كثروا ، فينقلها العصب المتصل بها إلى مركز إدراك الكلام من دماغه ، فيدرك معناها المدلول عليه بها بأقوى مما يدركه من قرأها مخطوطة في كتاب ، لما لجرس الصوت من التأثير الخاص ، فمن ذا الذي خلق هذه الآيات ؟ ومن ذا الذي ألهمها إيداع هذه المعاني في الأصوات ومن ذا الذي وضع هذا النظام في الهواء ؟ .
ثم إذا ازداد علما بإدراك البصر للمبصرات ، وما لها من المقادير والألوان والصفات ، وما للعين الباصرة من الشكل المحدب ، وما لها من الطبقات والرطوبات ، الموافقة لسنن الله في النور الذي تدرك به المرئيات ، مما هو مبسوط في الأسفار وموجز في المختصرات ، ازداد يقينا بأن ذلك من آيات الله الدالة على علمه وحكمته في الكائنات ، وإن غفل عنها المشغولون عن عظمة الصانع بعظمة المصنوعات ، وقد وحد السمع لأن إدراكه لجنس واحد هو الأصوات وجمع البصر لتعدد أجناس المبصرات .
(
ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) أي ومن ذا الذي يملك الحياة والموت في العالم كله ، فيخرج الأحياء والأموات بعضها من بعض فيما تعرفون من المخلوقات التي تحدث وتتجدد ، وفيما لا تعرفون ؟ فمما كانوا يعرفون أن النبات يخرج من الأرض الميتة
[ ص: 292 ] بعد إحياء الله تعالى إياها بماء المطر النازل عليها من السماء ، أو النابع منها بعد أن سلكه الله تعالى فيها كما قال : (
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ) ( 39 : 21 ) الآية بل كانت الحياة المعروفة عندهم قسمين : حياة النبات وآيتها النمو ، وحياة الحيوان وآيتها النمو والإحساس والحركة بالإرادة ، وكانوا يعدون وصف الأرض بالحياة مجازا ولم يكونوا يصفون أصول الأحياء بالحياة كالحب والنوى وبيض الحيوان ومنيه ، ولذلك فسر بعض المفسرين إخراج الحي من الميت والميت من الحي بخروج النخلة من النواة والطائر من البيضة وعكسهما وما يشابههما ، وهو تفسير صحيح عند أهل اللغة غير صحيح عند علماء الحياة النباتية والحيوانية ، وتحصل به الدلالة المقصودة من الآية على قدرة الله وحكمته وتدبيره ورحمته عند المخاطبين ، وليس المراد به وضع قواعد فنية للحياة وأنواعها وتحديد وظائفها ، على أنه يمكن تفسيرها بما يتفق وقواعد الفنون وتجارب العلوم التي تزداد عصرا بعد عصر ، فإذا كان أهلها يثبتون أن في أصول النبات من بذر ونوى وبيض ومني حياة ، فهم يثبتون أيضا أن أصول الأحياء في الأرض كلها خرجت من مادة ميتة ، فإن الأرض عندهم كانت كتلة نارية ملتهبة انفصلت من الشمس ، ثم صارت ماء ، ثم نبتت اليابسة في الماء ، ثم تكون من الماء النبات والحيوان في أطوار سبق الكلام فيها ، ويثبتون أيضا أن الغذاء من الطعام الذي يحرق بالنار يتولد منه دم ، ومن هذا الدم يكون البيض والمني المشتملان على مادة الحياة ، ويثبتون أيضا أن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن ويلفظه ، ويتجدد فيه مواد حية جديدة تحل محل ما اندثر وخرج منه ، والمراد من الآية : إثبات قدرة الخالق وتدبيره ونعمه على عباده وهو عام لا يتوقف على الفن ومحدثات العلم ، بل تزيده كمالا للمؤمن المعتبر ، وقد تكون حجابا لغيره تحجبه عن ربه ، فالقاعدة عند علماء الحياة أن الحي لا يخرج إلا من حي ، فتعين أن تكون الحياة الأولى من خلق الله الحي لذاته المحيي لغيره .
وورد في التفسير المأثور تفسير الحياة والموت في مثل هذه الآية بالمعنويين منهما ، كخروج المؤمن من سلالة الكافر ، والعالم من الجاهل ، والبر من الفاجر وعكسها ، وقد قدمناه في تفسير آية آل عمران ( 3 : 27 ) الوارد فيها لأنه المناسب لسياقها . وهناك رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وأبو الشيخ عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري nindex.php?page=showalam&ids=16000وسعيد بن منصور ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات
وأبو الشيخ في العظمة عن
سلمان - رضي الله عنه - وكذا
ابن مردويه عنه وعن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود - رضي الله عنه - فراجعه في تفسيرها من الدر المنثور وسياق هذه الآيات هنا يناسب ما فسرناها به من الحياة والموت في العالم كله ويؤيده قوله تعالى :
[ ص: 293 ] (
ومن يدبر الأمر ) في الخليقة كلها بما أودعه في كل منها من السنن وقدره من النظام ، وتقدم تفسير التدبير عند ذكره في أول هذه السورة (
فسيقولون الله ) أي فسيكون جوابهم عن هذه الاستفهامات الخمس أن فاعل ذلك كله هو الله رب كل شيء ومليكه ؛ إذ لا جواب غيره وهم لا يجهلونه ، فالاستفهام عنه لحملهم على الإقرار به ليرتب عليه قوله : (
فقل أفلا تتقون ) أي فقل لهم أيها الرسول أتعلمون هذا وتقرون به ، فلا تتقون سخط الله وعقابه لكم بشرككم به ، وعبادتكم لغيره ممن لا يملك لكم من تلك الأمور شيئا ، وهو المالك لها كلها ؟ ! .
(
فذلكم الله ربكم الحق ) هذه فذلكة ما تقدم ، أي فذلكم الذي يفعل ما ذكر الله ربكم ، أي المربي لكم بنعمه والمدبر لأموركم ، الحق الثابت بذاته ؛ لأنه هو الحي القيوم الحي بذاته ، المحيي لغيره ، القائم بنفسه ، المقيم لغيره ، وإذا كان هو ربكم الحق الذي لا ريب فيه ، والمستحق للعبادة دون سواه (
فماذا بعد الحق إلا الضلال ) الاستفهام إنكاري ، وفي الجملة إدماج بما يسمونه الاحتباك ، أي فماذا بعد الحق إلا الباطل ؟ وماذا بعد الهدى إلا الضلال ؟ والواسطة بين الطرفين المتضادين المتناقضين ممنوعة كالعقائد ، فالذي يفعل تلك الأمور هو الرب الحق ، فالقول بربوبية ما سواه باطل ، وهو الإله الذي يعبد بحق ، وعبادته وحده هي الهدى ، فما سواها من عبادة الشركاء والوسطاء ضلال ، فكل من يعبد غيره معه فهو مشرك مبطل ضال (
فأنى تصرفون ) أي فكيف تصرفون وتتحولون عن الحق إلى الباطل ، وعن الهدى إلى الضلال ، بعد العلم والإقرار بما كان به الله هو الرب الحق ، وإنما الإله الحق ، الذي يعبد بالحق ، هو الرب الحق ، فما بالكم تقرون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية ؟ فتتخذون مع الله آلهة أخرى ولا تتحقق الألوهية إلا بتحقق الربوبية ؟ .
فالآية تقرر أن
التوحيد لا يصح مع الفصل بين الربوبية والألوهية كما كانوا يفعلون ، وقد جهل هذا بعض علماء الأزهر في هذا الزمان ، الذين أخذوا عقيدتهم من بعض الكتب الكلامية المبتدعة وجهلوا عقائد القرآن ، فلم يفرقوا بين مفهومي الرب والإله في اللغة العربية ، وما كان عليه أهلها في الجاهلية ، على أن الإسلام إنما وحد بينهما في الماصدق الشرعي ، لا في المفهوم اللغوي ، واحتج بهذا على المشركين هنا وفي آيات كثيرة ، كما صرح به
الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره من قبله ومن بعده .
وفي الآية من قواعد العقائد الدينية وأصول التشريع والعلم ، أن الحق والباطل فيهما
[ ص: 294 ] ضدان لا يجتمعان ، وأن الهدى والضلال ضدان لا يجتمعان ، ولهذا الأصل فروع كثيرة في الدين والعلم العقلي . وفيها من حسنات الإيجاز في التعبير ما يسميه علماء البديع بالاحتباك ، وهو أن يحذف من كل من المتقابلين ما يدل عليه مقابله في الآخر ، وهو ظاهر في الآية أتم الظهور ، وإن غفل عنه الجمهور .
(
كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا ) أي مثل ذلك الذي حقت به كلمة ربك أيها الرسول في وحدة الربوبية والألوهية ، وكون الحق ليس بعده لتاركه إلا الباطل ، والهدى ليس وراءه للناكب عنه إلا الضلال ( (
حقت كلمة ربك ) ) : أي سنته أو وعيده على الذين فسقوا ، أي خرجوا من حظيرة الحق وهو توحيد الألوهية والربوبية وهداية الدين الحق . ففي كلمة الرب وجهان ، لكل منهما أصل في القرآن .
أحدهما : أنها كلمة التكوين ، وهي سنته في الفاسقين الخارجين من نور الفطرة واستقلال العقل ، الذين لا يتوجهون إلى التمييز بين الحق والباطل والتفرقة بين الهدى والضلال ؛ لرسوخهم في الكفر واطمئنانهم به بالتقليد والعمل فقوله : (
أنهم لا يؤمنون ) على هذا بيان للكلمة أو بدل منها ، أي اقتضت سنته في غرائز البشر وأخلاقهم (
أنهم لا يؤمنون ) بما يدعوهم إليه رسلنا من التوحيد والهدى مهما تكن آياتهم بينة ، وحججهم قوية ظاهرة ، وليس معناه أنه تعالى يمنعهم من الإيمان منعا قهريا مستأنفا بمحض قدرته ، بل معناه أنهم يمتنعون منه باختيارهم ترجيحا للكفر عليه .
ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في هذه السورة (
إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) ( 10 : 96 و 97 ) .
والوجه الثاني : أنها كلمة خطاب التكليف بوعيد الفاسقين الكافرين بعذاب الآخرة كقوله في سورة الم السجدة : (
وأما الذين فسقوا فمأواهم النار ) ( 32 : 20 ) وقوله في سورة غافر : (
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ) ( 40 : 6 ) ويكون قوله : (
أنهم لا يؤمنون ) على هذا تعليلا لما قبله بحذف حرف الجر ، أي لأنهم أو بأنهم لا يؤمنون .
وكل من الوجهين حق ظاهر . والأول أظهر هنا .
وقرأ
نافع وابن عامر ( كلمة ) في آيتي يونس وآية غافر بالجمع ( كلمات ) ولأجل ذلك رسمت في المصحف الإمام بالتاء المبسوطة ( كلمت ) ووجه قراءة الجمع أن هذا المعنى بوجهيه قد تعدد وتكرر في آيات الكتاب .