(
ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) .
[ ص: 312 ] لما بين تعالى في الآيات السابقة حال مشركي
قريش في اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بافتراء القرآن ، وبتكذيبهم بوعيده لهم ، بين في هاتين الآيتين أقسام هؤلاء القوم في تكذيبهم ومستقبل أمرهم أو حالهم ومستقبلهم في الإيمان ، وفي عمل المكذبين بمقتضى تكذيبهم ، وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى رسالته إلى أن يأتي أمر الله فيهم فقال : (
ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به ) يقول تعالى لرسوله خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - : وإن قومك لن يكونوا كأولئك الظالمين من قبلهم ، الذين كذبوا رسلهم إلا قليلا منهم فكان عاقبتهم عذاب الاستئصال ، بل سيكون قومك قسمين : قسم سيؤمن بهذا القرآن ، وقسم لا يؤمن به أبدا (
وربك أعلم بالمفسدين ) في الأرض بالشرك والظلم والبغي لفساد فطرتهم وفقدهم الاستعداد للإيمان ، وهم الذين يعذبهم في الدنيا فيخزيهم وينصرك عليهم ، ويجزيهم في الآخرة بفسادهم . وقيل : إن الآية في بيان حالهم عند نزول هذه السورة وهي أن بعضهم يؤمن به في الباطن وإنما يكذبه في الظاهر عنادا واستكبارا ، ومنهم من لا يؤمن به جهلا وتقليدا ، ومن هذا الفريق من فقد الاستعداد للإيمان وهم الأقلون ، وسيأتي وصف حالهم في الآيات 42 - 44 قريبا وله وجه . وأما الذي ليس له وجه صحيح فهو قول من فسروا التأويل بالمعنى الاصطلاحي الذي بينا فساده : إن هذا بيان لحالهم بعد إتيان التأويل المتوقع أي سيكون منهم حينئذ مؤمن وكافر ، لما بيناه من أنه غير مراد ولا معنى لإتيانه ، وأنه متى جاء تأويله المراد وهو وقوع العذاب ، يكون الإيمان به اضطراريا عاما وهو المنصوص في قوله تعالى : (
يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) ( 7 : 53 ) وتأويله بعذاب الاستئصال أو بقيام الساعة سواء في أنه لا ينفعهم معه الإيمان إذ لا يقبل منهم ، بل يقال لهم حينئذ : (
آلآن وقد كنتم به تستعجلون ) كما يأتي في الآية ( 51 ) وانظر تفصيله في آخر سورة المؤمن ( غافر ) ( 40 : 82 - 85 ) وسنبين في تفسير الآية ( 46 ) عدم وقوع عذاب الاستئصال على هذه الأمة . وفي الآية تسلية له - صلى الله عليه وسلم - يؤكدها ما بعدها وهو :
(
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم ) أي وإن أصروا على تكذيبهم فقل لهم : لي عملي بمقتضى رسالتي وهو البلاغ المبين ، والإنذار والتبشير ، وما يستلزمه من العبادة والإصلاح ، وما أنا عليكم بمسيطر ولا بجبار ، ولكم عملكم ، بمقتضى تكذيبكم وشرككم ،
[ ص: 313 ] وهو الظلم والفساد ، الذي تجزون به يوم الحساب ، ويقال لكم : (
هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) كما يأتي في الآية ( 52 ) من هذا السياق ، وهذا كقوله تعالى : (
قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) ( 17 : 84 ) (
أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) فلا يؤاخذ الله أحدا منا بعمل الآخر . وهذا كقوله : (
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ) ( 11 : 35 ) وقوله : (
فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ) ( 26 : 216 ) .