قال تعالى : (
وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) الإتيان بهذه القضية بعد وصف الأنبياء بالمبشرين المنذرين يدل على أن التبشير والإنذار عمل يسبق إنزال الكتب وهو حق; لأن الأنبياء أول ما يبعثون ينبهون قومهم إلى ما غفلوا عنه ، ويحذرونهم عاقبة ما يكونون فيه من عادة سيئة أو خلق قبيح أو عمل غير صالح ، فإذا تهيأت الأذهان لقبول ما بعد ذلك من تشريع الأحكام وتحديد الحدود ، أنزل الله الكتب لبيان ما يريد حمل الناس عليه مما هو صالح لهم على حسب استعدادهم ، ثم في قوله : (
وأنزل معهم الكتاب ) وعود الضمير على جميع النبيين ما يفيد أن الله أنزل مع كل نبي كتابا - معجزا كان أو غير معجز طويلا كان أو قصيرا - دون وحفظ ليؤدى من سلف إلى خلف ، وقوله : (
ليحكم بين الناس ) قرأ يزيد - بضم الياء وفتح الكاف ، والباقون - بفتح الياء وضم الكاف - وهي الرواية المشهورة المعروفة ، أما على رواية
يزيد فالمعنى أن الله أنزل الكتب مع النبيين بالحق; أي : ما يجب أن يعتقد به مما هو منطبق على الواقع، وبيان ما يجب أن يعمل به مما هو صالح لا مفسدة فيه; ليقع الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الأمرين . والحاكم : هو المتولي للفصل بين الناس في الخصومات بالنسبة إلى الأعمال ، والمرشد إلى صحيح العقائد على مقتضى ما جاء في الكتاب النازل بالحق والمبين لما ينطبق على نصوصه من الأعمال التي يحكم فيها الحاكمون .
أما على القراءة المعروفة فالحكم مسند إلى الكتاب نفسه ، فالكتاب ذاته هو الذي يفصل
[ ص: 227 ] بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وفيه نداء على الحاكمين بالكتاب أن يلزموا حكمه وألا يعدلوا عنه إلى ما تسوله الأنفس وتزينه الأهواء; فإن الكتاب نفسه هو الحاكم وليس الحاكم في الحقيقة سواه ، ولو ساغ للناس أن يؤولوا نصا من نصوص الكتب على حسب ما تنزع إليه عقولهم بدون رجوع إلى بقية النصوص ، وبناء التأويل على ما يؤخذ من جميعها جملة لما كان لإنزال الكتب فائدة ، ولما كانت الكتب في الحقيقة حاكمة بل تتحكم الأهواء ، وتذهب النفوس منازع شتى ، فينضم إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر جديد ، وهو الاختلاف في ضروب التأويل ، وبناء كل واحد حكما على ما نزع، فتعود المصلحة مفسدة ، وينقلب الدواء عليه; ولهذا رد الله تعالى الحكم إلى الكتاب نفسه لا إلى هوى الحاكم به وقال : (
فيما اختلفوا فيه ) لأن الاختلاف كان تابعا لتلك الوحدة التي بيناها فكان كأنه لازم لها ، وهو كذلك كما يبينه تاريخ البشر وما توارثوه عن أسلافهم ، وكما يقضي فيما اختلفوا فيه يقضي فيما يختلفون به من بعد ، ونسبة الحكم إلى الكتاب هي كنسبة النطق والهدى والتبشير إليه في قوله : (
هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) ( 45 : 29 ) وقوله : (
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين ) ( 17 : 9 ) وكنسبة القضاء إليه في قول الشاعر :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
والسر في التجوز هو ما ذكرت لك ، وقد يعود الضمير على الله; أي : أنزل الله معهم الكتاب بالحق ليحكم سبحانه بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وهو يشعر كذلك بأن الحاكم يجب أن يكون هو الله دون آراء البشر وظنونهم التي لا ترد إليه جل شأنه .