(
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ) .
لما بين تعالى لعباده سعة علمه ، ومراقبته لعباده ، وإحصاءه أعمالهم عليهم ، وجزاءهم عليها ، وذكرهم بفضله ، وما يجب عليهم من شكره ، بين لهم في هذه الآيات الثلاث حال الشاكرين المتقين ، الذين لهم أحسن الجزاء في يوم الدين فقال : (
ألا إن أولياء الله ) افتتحت هذه الجملة بكلمة ( ألا ) للتنبيه وتوجيه الفكر لها ، والأولياء : جمع ولي وهو وصف من الولاء والتوالي ، ومن الولاية والتولي ، فيطلق على القريب بالنسب وبالمكانة والصداقة ، وعلى النصير ، والمتولي للأمر والحكم أو على اليتيم والقاصر المدبر لشئونه ، ويوصف به العبد والرب تعالى كما تقدم في قوله تعالى : (
الله ولي الذين آمنوا ) ( 2 : 257 ) وفصلنا الكلام في تفسيره
[ ص: 341 ] بما بينا به ولاية الله العامة والخاصة لعباده ، وولايتهم له ، أو للشيطان والطاغوت ، وولاية بعضهم لبعض وضلال بعضهم بجعل ولاية الله الخاصة به لبعض عباده ، ( وهم الذين يسمونهم أولياء الله بما يسلبهم استحقاق هذا اللقب ، وذكرنا في شواهد ذلك التفسير هذه الآية .
أولياء الله أضداد أعدائه المشركين به ، والكافرين بنعمه ، فهم المؤمنون المتقون كما نطقت به الآية ، وهم درجات أعلاهم درجة هم الذين يتولونه بإخلاص العبادة له وحده ، والتوكل عليه ، وحبه والحب فيه ، والولاية له ، فلا يتخذون له أندادا يحبونهم من نوع حبه ، ولا يتخذون من دونه وليا ولا شفيعا يقربهم إليه زلفى ، ولا وكيلا ولا نصيرا فيما يخرج عن توفيقهم لإقامة سننه في الأسباب والمسببات ، ويتولون رسوله والمؤمنين بما أمرهم به ، قال تعالى : (
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ) ( 6 : 51 ) وقال : (
ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ) ( 32 : 4 ) وقال : (
قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) ( 33 : 17 ) وقال في آيتين أخريين منها : (
وكفى بالله وكيلا ) ( 33 : 3 ، 48 ) والآيات كثيرة في توليهم له بالطاعة ، وتوليه لهم بالهداية والعناية والإعانة والنصر والتوفيق .
وحسبنا هنا ما نفاه عنهم وما وصفهم به ثم ما زفه إليهم من البشارة ، فأما ما نفاه مخبرا به عنهم فقوله : (
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) وهو ما نفاه عن جميع المؤمنين الصالحين والمصلحين والمتقين في الآيات الكثيرة ( راجع 2 : 62 ، 5 : 69 و 6 : 48 ، 7 : 35 ، 49 وقد تقدم تفسيرها ) فأما في الآخرة حيث يتحقق هذا على أتم وجه وهو المقصود بالذات فلا خوف يقع عليهم ويرهقون به مما يخاف الكفار والفساق والظالمون من أهوال الموقف وعذاب الآخرة ، كما قال تعالى بعد ذكر إبعادهم عن جهنم : (
لا يحزنهم الفزع الأكبر ) ( 21 : 103 ) الآية ، ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم ، وأما في الدنيا فلا يخافون مما يخاف غيرهم من الكفار وضعفاء الإيمان وعبيد الدنيا من مكروه يتوقع كلقاء العدو ، قال : (
فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) ( 3 : 175 ) أو بخس في الحقوق أو رهق يغشاهم بالظلم والذل ، قال : (
فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ) ( 72 : 13 ) (
ولا هم يحزنون ) من مكروه أو ذهاب محبوب وقع بالفعل كما قال : (
لا تأسوا على ما فاتكم ) ( 57 : 23 ) والمراد أنهم لا يخافون في الدنيا كخوف الكفار ولا يحزنون كحزنهم ، وسنذكر نفي الخوف والحزن عنهم عند الموت وأما أصل الخوف والحزن فهو من الأعراض البشرية التي لا يسلم منها أحد في الدنيا ، وإنما يكون
المؤمنون الصالحون أصبر الناس وأرضاهم بسنن الله ، اعتقادا وعلما بأنه إذا ابتلاهم بشيء مما يخيف أو يحزن فإنما يربيهم بذلك لتكميل نفوسهم وتمحيصها بالجهاد في سبيله الذي يزداد به أجرهم كما صرحت بذلك الآيات الكثيرة .
[ ص: 342 ] وأما ما وصفهم وعرفهم به فقوله : (
الذين آمنوا وكانوا يتقون ) فهذا استئناف لبيان حال هؤلاء الأولياء النفسية العلمية والعملية . أي هم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وملكة التقوى له عز وجل ، وما تقتضيه من عمل . وعبر عن إيمانهم بالفعل الماضي لبيان أنه كان كاملا باليقين ، لم يزلزله شك ولم يحصل بالتدريج ، وعن تقواهم بالفعل الذي يدل على الحال والاستقبال لأن
التقوى تتجدد دائما بحسب متعلقاتها : من كسب وحرب ، وشهوة وغضب ، والمعنى الجامع فيها أنها اتقاء كل ما لا يرضي الله تعالى من ترك واجب ومندوب ، وفعل محرم ومكروه ، واتقاء مخالفة سنن الله تعالى في خلقه من أسباب الصحة والقوة والنصر والعزة وسيادة الأمة . وقد فصلنا هذا في مواضع من أهمها تفسير قوله تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ) ( 8 : 29 ) .
وأما البشرى التي زفها إليهم فهي قوله :
( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) البشرى : الخبر السار الذي تنبسط به بشرة الوجه فيتهلل وتبرق أساريره . وهذه البشرى مبينة في مواضع من كتاب الله تعالى ، وقد يراد بها متعلقها الذي يبشرون به ، ولم يذكر هنا ليشمل كل ما بشروا به في كتاب الله تعالى وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فأما البشرى في الحياة الدنيا فأهمها البشارة بالنصر ، وبحسن العاقبة في كل أمر ، وباستخلافهم في الأرض ما أقاموا شرع الله وسننه ، ونصروا دينه وأعلوا كلمته ، وأما في الآخرة فمن أكملها وأجمعها لمعاني الآية لأكملهم قوله : (
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم ) ( 41 : 30 - 32 ) المشهور في تنزل الملائكة عليهم أنه يكون عند البعث ، وكذا عند الموت ، ولا مانع من شموله لما في الملائكة الذين أمد بهم أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة
بدر : (
وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم ( 8 : 10 ) الآية . ثم قال : (
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ) ( 8 : 12 ) وقد يكون منه إلهام الحق والخير كما ورد في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود مرفوعا عند
الترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918618إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فيتعوذ بالله من الشيطان ) ) .
(
لا تبديل لكلمات الله ) أي لا تغيير ولا خلف في مواعيد الله عز وجل ، ومنها هذه البشارات وما في معناها من الآيات (
ذلك هو الفوز العظيم ) أي ذلك الذي ذكر من البشرى بسعادة الدارين هو الفوز العظيم الذي لا يعلوه فوز وإنما هو ثمرة الإيمان الحق ، والتقوى العامة في حقوق الله وحقوق الخلق .