(
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) .
هذه الآيات الثلاث تفريع على اللواتي قبلهن ، وتكميل لهن في بيان سنة الله في الأمم مع رسلهم وفي خلق البشر مستعدين للأمور المتضادة من الإيمان والكفر ، وفي
تعلق مشيئة الله وحكمته بأفعاله وأفعال عباده ووقوعها على وفقهما .
( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ) لولا هذه للتخصيص كما قال أئمة اللغة والنحو ،
[ ص: 394 ] والمراد بالقرية أهلها وهم أقوام الأنبياء ، فإنهم كلهم بعثوا في أهل الحضارة والعمران دون البادية ، أي فهلا كان أهل قرية من قرى أقوام أولئك الرسل آمنت بدعوتهم وإقامة الحجة عليهم ، (
فنفعها إيمانها ) قبل وقوع العذاب الذي أنذروا به ، أي أنه لم يؤمن قوم منهم برمتهم فإن التخصيص يستلزم الجحد
( إلا قوم يونس لما آمنوا ) قبل وقوع العذاب بهم بالفعل ، وكانوا علموا بقربه من خروج نبيهم من بينهم وروي أنهم رأوا علاماته ، ويجوز في هذا الاستثناء الاتصال والانفصال (
كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) أي صرفنا عنهم عذاب الذل والهوان في الدنيا لأن نبيهم خرج بدون إذن الله تعالى له ، فلم تتم عليهم الحجة ولا حقت عليهم كلمة العذاب ، وقد استدلوا بذهابه مغاضبا لهم على قرب وقوع العذاب كما أنذرهم فتابوا وآمنوا فكشفناه عنهم (
ومتعناهم إلى حين ) أي ومتعناهم بمنافعها إلى زمن معلوم هو عمرهم الطبيعي الذي يعيشه كل منهم بحسب سنته تعالى في استعداد بنيته ومعيشته . وقد فصلنا الكلام في الأجل الذي يسمى الطبيعي وغيره في تفسير : (
ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) ( 6 : 2 ) من سورة الأنعام ، ولا محل للبحث عن تعذيبهم في الآخرة كما فعل بعض المفسرين فإن شهادة الله تعالى لهم بالإيمان النافع ظاهرة في قبوله منهم ، صريحة في أنه لا يعذبهم في الآخرة على سابق كفرهم ، وإنما يجزون بغيره من أعمالهم بعد الإيمان .
هذا الذي فسرنا به الآية هو المتبادر من عبارتها ، والموافق للسياق ولسنة الله تعالى في أقوام الأنبياء عليهم السلام ، وفيه تعريض
بأهل مكة وإنذارهم ، وحض على أن يكونوا كقوم
يونس الذين استحقوا عذاب الخزي بعنادهم ، حتى إذا أنذرهم نبيهم قرب وقوعه وخرج من بينهم اعتبروا وآمنوا قبل اليأس ، وحلول البأس وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ثبت من خبره عليه السلام في تفسير سورتي الأنبياء والصافات ، وهو موافق في جملته لما عند أهل الكتاب .
( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) أي ولو شاء ربك - أيها الرسول الحريص على إيمان الناس - أن يؤمن أهل الأرض كلهم جميعا لا يشذ أحد منهم لآمنوا ، بأن يلجئهم إلى الإيمان إلجاء ، ويوجره في قلوبهم إيجارا ، ولو شاء لخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة لا استعداد في فطرتهم لغير الإيمان ، وفي معنى هذا قوله تعالى : (
ولو شاء الله ما أشركوا ) ( 6 : 107 ) وقوله : (
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) ( 11 : 118 ) والمعنى الجامع في هذه الآيات أنه لو شاء الله ألا يخلق هذا النوع المسمى بالإنسان المستعد بفطرته للإيمان والكفر ، والخير والشر ، الذي يرجح أحد الأمور الممكنة المستطاعة له على ما يقابله ويخالفه بإرادته واختياره ، لفعل ذلك ولما وجد الإنسان في الأرض ، ولكن اقتضت حكمته أن يخلق هذا
[ ص: 395 ] النوع العجيب ويجعله خليفة في الأرض ، كما تقدم بيانه في قصة
آدم من سورة البقرة وفي آيات أخرى ، هكذا
خلق الله الإنسان ، منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به كما تقدم : (
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) أي إن هذا ليس في استطاعتك أيها الرسول ، ولا من وظائف الرسالة التي بعثت بها أنت وسائر الرسل: (
إن عليك إلا البلاغ ) ( 42 : 48 ) (
وما أنت عليهم بجبار ) ( 50 : 45 ) وهذه أول آية نزلت في أن الدين لا يكون بالإكراه أي لا يمكن للبشر ولا يستطاع ، ثم نزل عند التنفيذ (
لا إكراه في الدين ) ( 2 : 256 ) أي لا يجوز ولا يصح به ، وذكرنا في تفسيرنا سبب نزولها ، وهو عزم بعض المسلمين على منع أولاد لهم كانوا تهودوا من الجلاء مع
بني النضير من
الحجاز ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يخيروهم وأجمع علماء المسلمين على أن
إيمان المكره باطل لا يصح ، لكن
نصارى الإفرنج ومقلديهم من أهل الشرق لا يستحون من افتراء الكذب على الإسلام والمسلمين ، ومنه رميهم بأنهم كانوا يكرهون الناس على الإسلام ، ويخيرونهم بينه وبين السيف يقط رقابهم ، على حد المثل : ( ( رمتني بدائها وانسلت ) ) .
( وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ) أي وما كان لنفس ولا من شأنها فيما أشير إليه من استقلالها في أفعالها ، ولا مما أعطاها الله من الاختيار فيما هداها من النجدين ، وما ألهمها من فجورها وتقواها الفطريين ، أن تؤمن إلا بإرادة الله ومقتضى سنته في استطاعة الترجيح بين المتعارضين ، فهي مختارة في دائرة الأسباب والمسببات ، ولكنها غير مستقلة في اختيارهم أتم الاستقلال ، بل مقيدة بنظام السنن والأقدار ، فالمنفي هو استطاعة الخروج عن هذا النظام العام ، لا الاستطاعة الخاصة الموافقة له ، ومثله قوله تعالى : (
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ) ( 3 : 145 ) أي إلا بمشيئته الموافقة لحكمته وسنته في أسباب الموت ، فكم من إنسان يعرض نفسه للموت شهيدا أو منتحرا بما يتراءى له من أسبابه ، ثم لا يموت بها لنقصها أو لمعارض مناف في نظام القدر الذي لا يحيط به علما إلا الله تعالى ، ومعنى الإذن في اللغة الإعلام بالرخصة في الأمر أي تسهيله وعدم المانع منه .
( ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) هذا عطف على محذوف يدل عليه المذكور دلالة الضد على الضد أو النقيض على النقيض ، أي وإذ كان كل شيء بإذنه وتيسيره ومشيئته التي تجري بقدره وسنته ، فهو يجعل الإذن وتيسير الإيمان للذين يعقلون آياته في كتابه وفي خلقه ، ويوازنون بين الأمور فيختارون خير الأعمال على شرها ، ويرجحون نفعها على ضرها بإذنه وتيسيره ، (
ويجعل الرجس ) أي الخذلان والخزي المرجح للكفر والفجور ، (
على الذين لا يعقلون ) ولا يتدبرون فهم لأفن رأيهم ، واتباع أهوائهم ، يختارون الكفر على الإيمان والفجور على التقوى ، وتقدم في تفسير آيات الخمر والميسر من سورة المائدة وفي الكلام
[ ص: 396 ] على المنافقين من أواخر سورة التوبة ، أن الرجس لفظ يعبر عن أقبح الخبث المعنوي الذي هو مبعث الشر والإثم .