الباب الخامس
في صفات البشر وخلائقهم وعاداتهم وما يترتب عليها من أعمالهم ، وسنن الله فيها وهي نوعان
( النوع الأول : الصفات الذميمة التي تجب معالجتها بالتهذيب الديني )
( الأولى :
العجل والاستعجال ) قال الله تعالى : (
خلق الإنسان من عجل ) ( 21 : 37 ) وقال : (
وكان الإنسان عجولا ) ( 17 : 11 ) ومن شواهد هذه الغريزة في هذه السورة قوله تعالى : (
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ) ( 11 ) ومنها استعجالهم بالعذاب الذي وعدهم الله في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما تراه في سياقه من الآيتين 50 و 51 .
( الثانية :
الظلم ) قال تعالى : (
إن الإنسان لظلوم كفار ) ( 14 : 34 ) وقال في آية الأمانة : (
وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) ( 33 : 72 ) ومن الشواهد على هذه الخليقة أو الشيمة في هذه السورة ما تراه في الآيات 44 و 85 و 106 .
( الثالثة :
الكفر بالله وبنعمه ) قال تعالى في وصف الإنسان من سورته سورة الدهر : (
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) ( 76 : 3 ) ووصفه بالكفور في سور الإسراء والحج والشورى ، وبالكفار ( بالفتح للمبالغة ) في سورة إبراهيم وذكرت آنفا ، ولكن ذكر الكفر بلفظه ومشتقاته في هذه السورة قليل ، ذكر في الآية الثانية الكافرون بالوحي والرسالة ، وفي الآية الرابعة جزاء الذين كفروا في الآخرة بكفرهم ، وذكر في الآية 86 في دعاء
بني إسرائيل بالنجاة من حكم الكافرين .
وأما ذكره بالمعنى فهو كثير فيها ، فمنه ما هو بلفظ التكذيب وعدم الرجاء بلقاء الله ،
[ ص: 414 ] وما هو بلازمه من الفسق والإجرام والبغي والطغيان والاستكبار ، وكذا الظلم الذي خصصناه بالذكر .
( الرابعة :
الشرك بالله تعالى ) وهو عادة صارت وراثية في الأمم ، وذكر في الآيات 18 و 28 و 34 و 35 و 66 و 71 وهو أخص من كل ما تقدم .
( الخامسة :
الجهل واتباع الظن والخرص ) الأصل في هذه الخليقة أن الله تعالى خلق الإنسان جاهلا لا يعلم شيئا من ضروريات حياته ، حتى إن غرائزه الخلقية أضعف من غرائز الحشرات والعجماوات ، وجعل عماد أمره على التربية والتعليم التدريجي ، ونصوص القرآن في هذا معروفة كقوله : (
والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ) ( 16 : 78 ) وآية الأمانة وتقدم ذكرها في الظلم . والنص الصريح في هذه السورة قوله تعالى : (
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) ( 36 ) وقوله : (
إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) ( 66 ) .
( السادسة :
الطبع على القلوب ) والإعراض عن آيات الله في خلقه مما يدرك بالسمع والأبصار ، حتى لا تعود تقبل ما يخالف تقاليدها الموروثة والراسخة بمقتضى العمل ، وهو نص قوله تعالى: (
كذلك نطبع على قلوب المعتدين ) ( 74 ) فهو صريح في كونه نتيجة معلولة لاعتداء حدود الفطرة السليمة كما تراه مفصلا في تفسيرها ، لا كما يفهمه الكثيرون من الجبرية والقدرية الصرحاء والمتأولين ، وغاية هذه النتيجة القلبية النفسية في الدنيا الحرمان من الإيمان بمقتضى كلمة الله في نظام التكوين ، وما بينه من كلمة التكليف ، لعدم الانتفاع بالآيات المرشدة للفطرة إلى الهداية ، وما هو تراه في الآيات 23 و 66 - 101 .
( السابعة :
الغرور والبطر بالرخاء والنعم ) فهم في أثنائها يمكرون في آيات الله ويشركون به ويبغون في الأرض ، حتى إذا أصابتهم الشدائد تذكروا وأخلصوا في دعائه ، فإذا كشفها عنهم عادوا إلى شركهم وفسادهم ، كما تراه في الآيات 21 - 23 و 88 .
نزلت هذه السورة في أوائل ظهور الإسلام
بمكة ، وأكثر أهلها مشركون معاندون كافرون ظالمون مجرمون جاهلون ، مستكبرة رؤساؤهم ، مقلدة دهماؤهم ، فكان مقتضى هذا تقديم الإنذار فيها على التبشير كما تراه في أولها ; ولهذا كان أكثرها في بيان الصفات والخلائق والعادات القبيحة الضارة وهو النوع الأول في هذا الباب ، وكان النوع الثاني مما يعلم أكثره بالاستنباط ، وكون أصل غرائز الإنسان الاستعداد للحق والباطل والخير والشر ، وكونه مختارا في كل منهما ، وكونه فطر على ترجيح ما يثبت عنده أنه خير له بالدلائل العقلية ،
[ ص: 415 ] أو التجارب العملية ، وكون الدين مؤيدا للعقل ، حتى لا يغلب عليه الهوى والجهل .
فتأمل الأصل في تكوين الأمم ووحدتها في فطرتها ، ثم طروء الاختلاف عليها في الآية 19 - ثم انظر في مقدمة الدعوة العامة إلى الناس كافة في آخر السورة من الآية 99 - 103 وهي صريحة في استعدادهم المذكور ، وكونه اختياريا لا إكراه فيه ، وتعبيره عن سنة الله في ترجيحهم الرجس على تزكية النفس بجعله على الذين لا يعقلون ، ولا يهتدون بآيات الله في السماوات والأرض ، ولا يعتبرون بسنته فيمن قبلهم من أقوام الرسل ، وكيف كانت عاقبتهم وعاقبة الرسل ومن آمن معهم .
ثم تأمل خلاصة هذه الدعوة من خطاب الناس في الآية 104 إلى آخر السورة ، من إقامة الحجة على المشركين الشاكين في دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكون الشك جهلا ، وكونهم إنما يعبدون وهما ، وكون ما يدعوهم إليه هو مقتضى الفطرة الحنيفية ، وكونهم يعبدون من لا يملك لهم نفعا ولا ضرا ، وكون ما جاءهم به هو الحق ، وكونهم مختارين في الاهتداء والضلال ، وكون ما يختارونه إما لأنفسهم وإما عليها ، وكونه - صلى الله عليه وسلم - ليس موكلا بهدايتهم ولا مسيطرا عليهم .
وهذه الخلاصة إجمال لما تقدم تفصيله في السورة وغيرها ، فارجع إلى تذكيرهم بالدلائل الكونية في الآية الثالثة التي تشير إلى أنها مغروسة في أعماق أنفسهم ، وبالدلائل العقلية بقوله في الخامسة : (
يفصل الآيات لقوم يعلمون ) وفي السادسة ( لقوم يتقون ) وخطابه في الآية السادسة عشرة للعقل بقوله : ( أفلا تعقلون ) وفي الرابعة والعشرين للفكر بقوله : (
كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) ثم ارجع إلى قوله بعد إقامة طائفة من الدلائل العلمية الكونية : (
قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ) الآيات 35 - 39 ، ثم إلى بيانه لهم ما في القرآن من أصول التزكية والتهذيب الأربعة في الآية 57 وما بعدها - وقد تقدم تفصيل ذلك وما في معناه في الفصول السابقة .