(
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون )
بدئت هذه السورة بذكر القرآن وموضوع دعوته العامة وحال الناس فيها ، وبيان طباعهم وشئونهم الرديئة إلا ما هذبته هداية الدين منها ، وهذه الآيات خاصة بتكذيب المشركين للرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ، وقد بدئت ببيان غمه وحزنه وضيق صدره - صلى الله عليه وسلم - من تكذيب قومه وتأكيد تبليغه ويليه تحديه به المثبت لوحيه .
(
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ) ، المتبادر إلى الفهم من جملة لعل بحسب موقعها هنا الاستفهام الإنكاري المراد به النهي أو النفي ، أي أفتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك ، مما يشق سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد أو النهي عن الشرك والإنذار والوعيد الشديد لهم والنعي عليهم ، وضائق به صدرك أن تبلغهم إياه كله كما أنزل كراهة (
أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز ) أي هلا أعطاه ربه كنزا من لدنه يغنيه في نفقته ويمتاز به على غيره ، فالكنز : ما يدخر من المال في الأرض ، عبروا به عما ينال بغير كسب ، وبإنزاله عليه على كونه من عند الله يخصه به (
أو جاء معه ملك ) يؤيده في دعوته ، وهم قد قالوا ذلك كما جاء في سورة " الفرقان " : (
وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ) ( 25 : 7 و 8 ) أي
[ ص: 27 ] إن ضيق الصدر وكتمان بعض الوحي مما يخطر بالبال ، وشأنه أن تقتضيه الحال ، بحسب المعهود من طباع الناس ، فهل أنت مجترح لهذا الترك ، أو مستسلم لما يعرض لك بمقتضى البشرية من ضيق الصدر ؟ كلا لا تفعله . فهو كقوله : (
ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ) ( 16 : 127 ) وقوله : (
المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) ( 7 : 1 و 2 ) وقوله (
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) ( 18 : 6 ) وقوله (
طسم تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ) ( 26 : 1 - 4 ) أي لعلك قاتلها غما وانتحارا ؟ أي لا تفعل ، وحاصله أن عنادهم وجحودهم وإعراضهم عن الإيمان وشدة اهتمامك بأمرهم فيما ليس أمره بيدك ، مما شأنه أن يفضي إلى ذلك لولا عصمتنا إياك وتثبيتنا لك ، فهل تصر عليه حتى تبخع نفسك ؟ لا لا ، ويوضح هذا المعنى في كون الإرشاد مبنيا على بيان الواقع في تلك الوقائع قوله - تعالى - : (
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) ( 17 : 74 ) .
(
إنما أنت نذير ) فعليك أن تبلغ جميع ما أمرت أن تبلغه وتنذر به في وقته وإن ساءهم وأطلق ألسنتهم (
والله على كل شيء وكيل ) أي هو الموكل بأمور العباد والرقيب عليهم فيها ، وليس عليك منها شيء ; لأنها من أمور الخلق والتدبير لا من موضوع التعليم والتبليغ ، الذي هو وظيفة الرسل . كما قال في آيات أخرى : (
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) ( 2 : 272 ) و : (
فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ) ( 88 : 21 - 22 ) و : (
نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) ( 50 : 45 ) .
ومن مباحث اللغة في الآية أن كلمة ( ( لعل ) ) للترجي والتوقع ، وفي لسان العرب أنها رجاء وطمع وشك . وقالوا : إنها من الله - تعالى - للقطع في مثل قوله : (
واتقوا الله لعلكم تفلحون ) وقال شيخنا إنها للإعداد والتهيئة ; أي ليعدكم ويؤهلكم للفلاح بالتقوى ، وحققنا أنها قد تكون لإطماع المخاطب وإحداث الرجاء عنده وهو مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه . وحصر
ابن هشام معانيها في ثلاث : 1 - التوقع : وهو ترجي المحبوب ، والإشفاق من المكروه . 2 - التعليل : قال وحملوا عليه قوله - تعالى - في فرعون : (
لعله يتذكر أو يخشى ) ( 20 : 44 ) 3 - الاستفهام : وأسنده إلى الكوفيين ( أقول ) : وإذا كانت للاستفهام يدخل فيه أنواعه كاستفهام الإنكار المراد به النهي أو النفي ، واختاره بعضهم في هذه الآية قبلنا .
(
أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين )
[ ص: 28 ] أي بل أيقول هؤلاء المشركون من
أهل مكة إن
محمدا قد افترى هذا القرآن قل لهم أيها الرسول : إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم ، لا تدعون أنها من عند الله فإنكم أهل اللسن والبيان ، والمران على المفاخرة بالفصاحة والبلاغة وفنون الشعر والخطابة ، ولم يسبق لي شيء من ذلك في هذا العمر الطويل الذي عشته بينكم ، وهو أربعون سنة ، فإن كان من جنس كلام البشر فأنتم به أجدر ، وإن كانت أخباره عن الله - تعالى - وعن عالم الغيب عنده وقصصه عن الرسل وأقوامهم مفتريات فأنتم على مثلها أقدر فإنكم تعلمون أنني أصدقكم لسانا لم أكذب على بشر قط ، فكيف أفتري على الله عز وجل وأنتم تفترون عليه باتخاذ الآلهة معه والبنات له والشفعاء عنده ، وتحريم السائبة والبحيرة والوصيلة والحام ، وغير ذلك من الزرع والأنعام ، وإن كنتم تزعمون أن لي من يعينني على وضعه ممن لا وجود لهم بالفعل ولا بالإمكان ، فادعوا من استطعتم ممن تعبدون غير الله ومن جميع خلق الله ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر ، ولتكن مثله مفتريات إن كنتم صادقين في دعواكم ، بأن تكون مشتملة على مثل ما فيه من تشريع ديني ومدني وسياسي ، وحكم ومواعظ وآداب وأنباء غيبية محكية عن الماضي وأنباء غيبية على أنها ستأتي ، بمثل هذه النظم البديعة ، والأساليب العجيبة ، والبلاغة الحاكمة على العقول والألباب والفصاحة المستعذبة في الأذواق والأسماع ، والسلطان المستعلي على الأنفس والأرواح ، إذا كان ما تحديتكم به أولا من سورة واحدة لا يتسع لكل الأجناس والأنواع ، أو فأتوا بنوع مما تدعون افتراءه كالقصص في علومها وحكمها وهدايتها ، مكررا كتكراره لكل أنواعها ، هذا التكرار الذي لا تبلى جدته ، ولا تمل إعادته .
هذه الآية كالآية 38 من سورة يونس ، إلا أن التحدي في تلك بسورة مثله مطلقا ، وفي هذه بعشر سور مثله مفتريات ، وقد وعدت في تفسيرها بالكلام على حكمة التحدي بعشر سور عندما أصل إلى تفسير آية سورة هود هذه ، ثم بدا لي أن أبينها هناك مجملة لئلا تخترمني المنية قبل بلوغ هذه الآية فبينتها في جواب ما يرد من الشبهة على المتكلمين في إعجاز البلاغة .
بل سبق لي أن بينت حكمة التحدي بعشر سور مثله مفتريات في تفسير آية سورة البقرة التي هي آخر آيات التحدي نزولا ، ووضحت ذلك في الفصل الملحق به الذي عقدته لبيان وجوه الإعجاز ، ولا سيما الوجه الأول منه وهو إعجازه بأسلوبه ونظمه العديدة وأساليبه الكثيرة في سوره المائة والأربع عشرة .
[ ص: 29 ] خلاصة ما تقدم أن المفسرين الذين لم يؤتهم الله - تعالى - حكمة التحدي بعشر سور مفتريات ، زعموا أن الله - تعالى - تحدى فصحاء
قريش الذين هم أفصح العرب ومن دونهم من سائر الخلق بالإتيان بمثل هذا القرآن في جملته ، فلما عجزوا تحداهم بعشر سور مثله ، فلما عجزوا تحداهم بسورة واحدة مثله ، ثم بسورة من مثله ولكن هذا الترتيب لم يصح به نقل ، بل المروي في ترتيب نزول السور يخالفه ، فإن سورة هود نزلت عقب سورة يونس ، وأجاب بعضهم بأن نزول سورة قبل أخرى لا يقتضي نزول جميع آياتها قبل جميع آياتها ، وهذا الجواب إنما يقال فيما تصح الرواية في تأخر نزوله وتقدمه ، ولا يصح بالتحكم المحض ، فيما هو خلاف الأصل الثابت بالنقل ، وأبعده عن التصور أن يكون في موضوع واحد في سورتين متعاقبتين .
وسبب غفلتهم عن هذه الحكمة ، أنهم لم يطلبوها من التأمل في سور القرآن وما فيها من وجوه الإعجاز المكرر في سوره ; لأنهم اعتادوا أن يطلبوا معانيه من الروايات المأثورة على قلتها وقلة ما يصح منها ، ومن مدلول كل آية منها وحدها في مفردات اللغة وجملها ، بمقتضى القواعد الفنية أو الفقهية وأصولها ، وقد بينت في تفسير آية البقرة أن أقوى شبهة للمعترضين على دعوى الإعجاز بالفصاحة والبلاغة ، أن المعنى الواحد الذي يمكن التعبير عنه بعبارات مختلفة قد يسبق بعض الفصحاء إلى أعلى عبارة له وأبلغها ، بحيث يكون كل ما عداها دونها ، وأنه لا يدل على أن السابق لها قد تلقاها بوحي من الله - تعالى - . فإن مثله يوجد في كل اللغات ، وذكرت مثلا لهم من القرآن على هذا ، وأجبت عنها بأن القرآن يعبر عن المعاني الكثيرة بالعبارات المختلفة التي تعد كل منها في أعلى الدرجات ويعجز عنها جميع البلغاء ثم بينت في مباحث الوحي من تفسير يونس أن القاموس الأعظم لإعجاز القرآن اللفظي هو تكرار المعنى الواحد بالعشرات والمئات من العبارات المختلفة في النظم والأسلوب وبلاغة العبارة وقوة تأثيرها في قلوب القارئين والسامعين لها ، وعدم وقوع الاختلاف بالتناقض أو التعارض في شيء منها كما قال : (
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) ( 4 : 82 ) وإنما يظهر هذا الإعجاز بنوعيه في السور العديدة وبينت في تفسير آية يونس وجه وصفها بمفتريات ، وأعود هنا إلى بسط المسألة وفاء بالوعد فأقول : الضمير المنصوب في افتراه يعود إلى القرآن للعلم به من سياق تبليغه ، وقد حكى عنهم هذه التهمة في سورة أخرى منها ما تقدم قريبا في سورة يونس ، وفيها وجهان : ( 1 ) أنه افتراه في جملته بإسناده إلى الله - تعالى - وادعائه أنه كلامه أوحاه إليه ، وقدمت الجواب عنه آنفا .
( 2 ) أنه افترى أخباره التي يدعي أنها من عند الله ; إذ لا يعلمها غيره وقد استدل بها على نبوته كما بينته في مباحث الوحي وفي تفسير آية يونس ، وقد حكى الأمرين عنهم في سورة
[ ص: 30 ] الفرقان بقوله : (
وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا
أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ) ( 25 : 4 - 6 ) فأساطير الأولين قصصهم وأكاذيبهم التي سطروها ، وكانت العرب تسلي نفسها عن جهلها بالأديان والتواريخ بزعمهم أنها خرافات وأكاذيب ، فالتحدي بالسور العشر هو الذي يفند هاتين التهمتين الموجهتين إليه - صلى الله عليه وسلم - بأنهض حجة عملية ، لا جدلية .
وبيانه أن هذا التحدي بالعشر يثبت به من بطلان دعواهم ما لا يثبت بالعجز عن سورة واحدة ، ولا سيما إذا كانت قصيرة ، ولهذا حسن مجيئه بعد التحدي بسورة واحدة مطلقا ، خلافا لرأي الجمهور الذين غفلوا عن هذا المعنى ، فظنوا أن التحدي بالعشر بعد العجز عن الواحدة لا وجه له ; لأن من عجز عن واحدة كان أعجز عن اثنتين فضلا عن عشر ، فتفصوا من هذا بدعوى الترتيب المتقدم ، وهو إنما يصح إذا كان موضوع التحدي متحدا مطلقا وهو هنا مختلف ومقيد .
ذلك بأن
افتراء الأخبار المدعى في القرآن نوعان :
( أحدهما ) أنباء الغيب الماضية . وهي قسمان : ( 1 ) قصص الرسل مع أقوامهم ، وقد تحدى بها من ناحية كونها غيبيا لم يسبق له - صلى الله عليه وسلم - علم بها كما بيناه في محله ، ومنه ما يأتي التصريح به في هذه السورة وما بعدها وفي غيرهما . ( 2 ) أخبار التكوين ; كخلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، كخلق الإنسان والجان ، لا أذكر أنه صرح بالتحدي بها تحديا خاصا ، ولا أنهم كذبوا بها وأنكروها ، فهي لم تكن موضع نزاع ، وكذلك أخبار السنن العامة في الخلق الواردة في سياق تعداد النعم كما تراه في سورة النحل ، أو سياق آيات الله - تعالى - وحججه على عباده كما تراه في سورة الروم ، وإنما جعلت هذه كلها قسما واحدا في هذا البحث لأنها ليست داخلة في تهمة الافتراء .
( وثانيهما ) أنباء الغيب الآتية وهي قسمان أيضا : ( 1 ) وعد الله بنصر رسوله والمؤمنين وجعل العاقبة لهم واستخلافهم في الأرض ، وبخذلان أعدائه وأعدائهم الكافرين والانتقام منهم وتعذيبهم في الدنيا قبل الآخرة ، وهو ما كانوا يتمارون به ويكذبونه ( 2 ) القيامة وبعث الخلق وحسابهم وجزاؤهم بعقائدهم وأعمالهم ، وهو ما كانوا ينكرونه ويستبعدونه .
فأخبار الغيب التي كانوا يكذبونها ويزعمون أنها مفتراة هي ثلاثة : ( 1 ) أخبار الآخرة . ( 2 ) أخبار وعد الله لرسوله وللمؤمنين ووعيده لأعدائه في الدنيا وكلاهما من أنباء الغيب المستقبلة التي لا يظهر صدقها إلا بتأويلها ، أي وقوع مدلولها . ( 3 ) قصص الرسل - عليهم السلام - وهي
[ ص: 31 ] أمور قد وقعت بالفعل ، وهاك كلمة تفصيلية في عدد العشر في كل منها ، يعلم بها ترجيح الثالث الذي سموه أساطير الأولين وهو المختار عندنا .
فأما آيات البعث والجزاء فكثيرة في جميع أنواع السور من أطولها إلى أقصرها التي هي سور قصار المفصل .
وقد تكلمنا على وجه الإعجاز بتكررها المبثوث في مئات المواضع من السور الكثيرة المختلفة النظم بالأساليب العجيبة والبلاغة الدقيقة في الركن الثالث من أركان المقصد الأول من مقاصد القرآن ، وأقول هنا : إن قصار المفصل المكية التي نزلت قبل سورة هود ، ويحتمل أن تكون مرادة من هذه العشر كلها أو بعضها هي : التين ، والعاديات ، والقارعة والتكاثر ، والهمزة ، واللهب ، فلا بد من تكميلها مما قبل سورة الضحى ، ولا يظهر للتحدي بعشر مفتريات منها معنى لا يوجد في السورة الواحدة ، ولا سيما إذا كانت طويلة ، فهي غير مرادة بالعشر .
وأما آيات وعد الله لرسوله وللمؤمنين بالنصر ، ووعيده الدنيوي للكافرين بالخذلان والعذاب ، فلا يوجد في قصار المفصل شيء صريح منها ، ولكن إشارات في بعضها ( منها ) سورة ( الكوثر ) وهي أقصر سورة في القرآن ، ففيها الوعد الصادق للنبي - صلى الله عليه وسلم - بإعطائه الخير الكثير الديني والدنيوي ، ومنه الغنى بعد الفقر الذي كان أغنياء قومه يعيرونه به ، والوعيد الصادق لعدوه
العاص بن وائل الذي سماه أبتر عند موت ابنه
القاسم ، بأنه هو الأبتر الذي سينقطع ذكره بنسله وغير نسله ، ويتضمن هذا الحصر الإضافي بقاء ذكره - صلى الله عليه وسلم - بذريته وبآثار هدايته ، وكل ذلك وقع بالفعل ، وقد بينت خلاصة تفسيرها في بحث إعجاز السور القصار من تفسير التحدي بآية سورة البقرة ( ومنها ) سورة ( اللهب ) بناء على أن الجملة الأولى منها خبر بهلاك
أبي لهب وامرأته ، وإذا قيل إنها دعاء فمعناه الخبر وقد صدق ، فقد مات
أبو لهب شر ميتة خارج
مكة وبقي ملقى حتى تفسخ وأنتن ، وكان ذلك بعد غزوة
بدر بأيام ، وهي أول انتقام الله من عتاة
قريش وتصديق وعده لرسوله في قوله : (
يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) ( 44 : 16 ) ومثلها الوعيد في سورة العلق ، وقد نزل في
أبي جهل وصدق بقتله في غزوة
بدر أشر قتلة ، وفي معناهما الوعيد في سورة ( المدثر ) من وسط المفصل وقد نزل في
الوليد بن المغيرة ، وهو يشمل وعيد الدنيا والآخرة وقد صدق ووقع - فهذه أربع سور من قصار المفصل ووسطه ، والوعد والوعيد فيها خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأشد العتاة الذين بارزوه العداوة ، ولكن لم يكن أحد من
قريش بعد ذلك - ممن كانوا ينكرونه - من الوعيد له والوعيد لهم ; لأنه جزئيات متفرقة مجملة ، لا وقائع فاصلة ، فهي غير مرادة بالعشر أيضا .
[ ص: 32 ] ومن الوعيد العام للكفار كلهم في وسط المفصل قوله - تعالى - في سورة الجن من تبليغه - صلى الله عليه وسلم - الدعوة : (
حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ) ( 72 : 24 و 25 ) إلخ . وهذا بعد الوعد فيها بقوله : (
وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ) ( 72 : 16 ) .
وجملة القول أنه ليس في قصار المفصل ولا في أوسطها عشر سور ناطقة بالوعد والوعيد الدنيويين فتكون هي المرادة بالتحدي .
وأما طوال المفصل ففيها شيء من الوعد والوعيد المبهم في سور الذاريات والطور والنجم والقمر ; بمناسبة ذكر أقوام الرسل الذين انتقم الله منهم في الدنيا ، ثم في سور الملك والقلم والحاقة والمعارج ، ومجموع ما فيه يزيد على عشر ، إن أريد التحدي بها أو دخولها فيما يتحدى بها في الآية ، وإنما الصريح من الوعد والوعيد الذي هو الأحرى بأن يكون المراد فإنما هو في السور الطويلة مما فوق المفصل ، ولكن هذا النوع كالذي قبله لا يظهر فيه تخصيص التحدي بعشر مفتريات ; لأنه مشترك مع الذي بعده في سوره ، ولأن موضوعه مما لا يعرف صدقه لذاته إلا بوقوعه .