وجه التحدي بعشر سور من قصص القرآن :
وأما قصص الرسل - عليهم السلام - فهي التي تظهر فيها حكمة التحدي بالسور العشر على أتمها وأكملها من الوجوه اللفظية والمعنوية المختلفة ، ويكون العجز عن معارضتها أقوى حجة وبرهانا على كونها من عند الله - تعالى - لا مفتراة من عند
محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده ، ولا مما أعانه غيره عليه كما تصوروا وزوروا ، لأن العجز عن مثلها عام كما سنفصله ، على أن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - بدأ بهذه الدعوة بالقرآن وحده ، وكان يتبعه الواحد بعد الواحد من أصدق الناس وأسلمهم فطرة مستهدفين باتباعه للإيذاء والاضطهاد ، ولولا الإيمان بوعد الله لهم ووعيده لأعدائهم لما كان لأحد منهم أمل بالسلامة من الهلاك ، فأي باعث يبعثهم على التعاون معه على تزوير كتاب على الله - عز وجل - يعادون به كبراء قومهم وعصبية أمتهم بما يفرقون به كلمتها ويضعفونها ويذلونها ؟ ! وكيف يعرضون أنفسهم للهلاك ، ويعرض المتمول منهم ماله للزوال لتأييد الكذب والافتراء ، على فرض أنهم غير مؤمنين ، وأنهم قادرون على الإتيان بمثل هذا القرآن ؟ كل ذلك بديهي البطلان .
والفرق بين هذه القصص وسائر أخبار الغيب المستقبلة المكرر منها كوعيد الدنيا ووعدها وجزاء الآخرة ، وغير المكرر كالأمثال المضروبة لإيضاح الحقائق أو للعبرة في سور النحل والكهف والقلم وغيرهن أن موضوعها وقائع بشرية تاريخية لها روايات متواترة في جملتها ، بعضها مدون عند أهل الكتاب وغيرهم ، وبعضها محفوظ عند العرب كأخبار
عاد وثمود [ ص: 33 ] وإبراهيم وإسماعيل ، فدعوى افترائها من أصلها مكابرة ظاهرة البطلان ، والكلام فيها بغير علم عرضة لضروب من الخطأ اللفظي ، وتكراره مزلة في مداحض التعارض والاختلاف المعنوي ، والتفاوت والخطل البياني ، ويظهر ذلك لكل أحد منهم ; لأنه من جنس معارفهم وما يعهدونه بينهم ، لا كأمور الغيب في غير عالمهم ، فتحديهم بعشر سور من جنسها كالتحدي بمعارضة مقامات الحريري لمقامات بديع الزمان وأمثالهما ، يمكن لأهل اللسان أن يحكموا فيه بالتفاضل بينهما في بيانهما وحكمتهما ومعانيهما .
وقد جاءت أخبار الأنبياء مكررة في السور المكية على درجات في قلتها وكثرتها ، تبتدئ بالآية والآيتين والثلاث لبعض هؤلاء الرسل في بعض السور ، وترتقي في بعضها إلى منتهى جمع القلة أو تزيد قليلا ، كما تراه في ( ( آل حمم ) ) من فصلت إلى الأحقاف ، وفي أثناء سور الفرقان و ( ( ق ) ) والذاريات والنجم ، وفي أول الحاقة والفجر وآخر البروج ، فهذه سور تزيد على عشر فيها جميع أنواع الإعجاز اللفظي والمعنوي ، ولكن هذه الأخبار فيها عبر لا تبلغ أن تكون قصصا .
وأما القصص فقد تبلغ في بعض سورها عشرات الآيات كيونس وإبراهيم والحجر والمؤمنون والعنكبوت ، وتعد في بعضها بالصفحات لا بالآيات ، ومنها ما أكثره في هذه القصص كالأعراف ومريم والنمل ، ومنها ما ليس فيه من غيرها إلا خاتمة مختصرة كيوسف
[ ص: 34 ] وطه والأنبياء والشعراء والقصص ، أو فاتحة هي براعة مطلع وخاتمة هي براعة مقطع ، كهود والصافات و ( ( ص ) ) وفي قصة
نوح - عليه السلام - سورة في المفصل خاصة به وبقومه سميت باسمه على تكرارها في السور المختلفة ، وكذلك سورة يوسف - عليه السلام - خاصة بقصته . كما أن سورتي طه والقصص في قصة
موسى - عليه السلام - وحدها ، على كثرة تكرارها في غيرهما .
بيد أن
التحدي بالسور التي فيها القصص إنما يراد به التحدي بها كلها ، لا بالقصص التي فيها دون غيرها ، وقد علمت أنه لا يوجد في القرآن عشر سور ولا خمس ليس فيها شيء سواها ، وأن أكثر السور التي فيها القصص الحقيقية وسط بين الطول والمفصل ، فالأولى منها في المصحف وهي الأعراف من السبع الطوال وآياتها 206 ، وآيات القصص فيها 112 آية ، وقبلها قصة النشأة الإنسانية وافتتاحها وختامها في دعوة الإسلام ، وبعدها فيه سورة يونس ، وهي 109 آيات وقصصها 23 آية ، وتتلوها سورة هود ، وآياتها 123 أكثرها في القصص ، وهي أشبه السور بها في فاتحتها وخاتمتها وتحديها في إبطال الافتراء ، والمأثور أنها نزلت بعدها متممة لها كما تقدم ، فجملة ما نزل قبل سورة هود من سور القصص : الأعراف ويونس ومريم وهي 98 آية ، وطه وهي 135 والطواسين : الشعراء وهي 227 والنمل وهي 93 والقصص وهي 88 وآياتهما أطول من آيات الشعراء ونزلن متعاقبات . ويليهن سورة القمر وهي 55 آية وسورة ( ( ص ) ) وهي 88 آية وقد نزلتا متعاقبتين بعد ما تقدم كله ، فهذه تسع سور ، وسورة هود هي العاشرة لهن .