(
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون )
هذه الآيات السبع بيان لحال كل فريق من الفريقين المدمجين في الآية التي قبلهن الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به ، ما كانوا عليه في الدنيا وما يكونون عليه في الآخرة ، وبدأ بوصف الأول فقال :
[ ص: 47 ] (
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) أي لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على الله كذبا في وحيه وأقواله ، أو أحكامه أو صفاته أو أفعاله ، وقد تقدم مثل هذه الجملة في الأنعام ( 1 ) والأعراف ( 2 ) ويونس ( 3 ) وسيأتي في الكهف والعنكبوت والصف ، ويفسر الافتراء في كل آية بما يدل عليه السياق ، وأظهره هنا اتخاذ الشركاء والأولياء والشفعاء له بدون إذنه ، وزعم من زعم أنه اتخذ له ولدا من الملائكة كالعرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، والوثنيين الذين قالوا : إن كرشنا ابن الله ،
والنصارى الذين قالوا :
المسيح ابن الله ، وكذا من افترى عليه بتكذيب ما جاء به رسله من دينه ، لصدهم الناس عن سبيله (
أولئك يعرضون على ربهم ) يوم القيامة لمحاسبتهم ، وتعرض عليه أعمالهم وأقوالهم (
ويقول الأشهاد ) الذين يقومون بأمره للشهادة عليهم من الملائكة الكرام الكاتبين ، والأنبياء المرسلين ، وصالحي المؤمنين ( ( الأشهاد جمع شاهد كأصحاب ، أو شهيد كأشراف ) ) (
هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) أي يشيرون إليهم بأشخاصهم فيفضحونهم بهذه الشهادة المقرونة باللعنة ، الدالة على خروجهم في ذلك اليوم من محيط الرحمة ، وجملة اللعنة يجوز أن تكون من كلام الأشهاد ، وأن تكون مستأنفة من كلام الله تعالى . وفي معنى هذا قوله تعالى : (
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ) ( 40 : 51 و 52 ) وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر في الصحيحين وغيرهما : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003469إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا فيقول : رب أعرف ، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته . وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : ( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) وقد بينا مسألة الشهادة والشهداء يوم القيامة في مواضعها من سور البقرة والنساء والأنعام والأعراف مفصلة تفصيلا ، فراجع تفسيرها في مواضعها من أجزاء التفسير مستدلا عليها بألفاظها في فهارسها .
[ ص: 48 ] (
الذين يصدون عن سبيل الله ) صفة للظالمين الملعونين ، أي هم الذين يمنعون الناس ويصرفونهم عن سبيل الله الموصلة إلى معرفته وعبادته ، وهي دينه القيم وصراطه المستقيم (
ويبغونها عوجا ) أي يصفونها بالعوج والالتواء للتنفير عنها ، أو يريدون أن تكون عوجاء بموافقتها لأهوائهم من الشرك وإباحة الظلم والفسق (
وهم بالآخرة هم كافرون ) أي والحال أنهم كافرون بالآخرة لا يؤمنون ببعث ولا جزاء ، وإنما الدين عندهم رابطة دنيوية ، وشعائر قومية ، قد يتعصبون لها تعصبهم لقوميتهم ، وتقليدا لآبائهم ، وهكذا شأن الملاحدة والمبتدعة من أهل الأهواء ، المدعين لدين الأنبياء ، كما تراهم في هذا الزمان .
وزيادة - هم - بين المتبدإ والخبر للتأكيد . وقد تقدم نص هذه الآية بدون هذه الزيادة في الآية ( 45 ) من سورة الأعراف ( 7 ) فراجع تفسيرها في الجزء التاسع .
(
أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ) أي لم يكونوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم بظلمهم وصدهم عن سبيله وكفرهم بكتابه ورسوله ولقائه (
وما كان لهم من دون الله من أولياء ) وما كان لهم فيها أولياء من دونه يتولون أمرهم عنده ، ولا أنصار يمنعونهم من عقابه وينصرونهم ، ولكن سبقت كلمته واقتضت مشيئته وحكمته أن يؤخرهم إلى هذا اليوم (
يضاعف لهم العذاب ) فيه بالنسبة إلى ما كان يكون من عقابهم في الدنيا لو عوقبوا فيها ، لا بالزيادة عما يستحقونه منه بمقتضى سنته - تعالى - في إفساد كفرهم لأرواحهم ، وتدسية ظلمهم لأنفسهم ، وهذه الجملة استئناف بياني .
قرأ الجمهور ( ( يضاعف ) ) من المضاعفة ،
وابن كثير وابن عامر ويعقوب ( ( يضعف ) ) بالتشديد من التضعيف . وعلل هذه المضاعفة بقوله : (
ما كانوا يستطيعون السمع ) أي ما كانوا يستطيعون إلقاء أسماعهم إلى القرآن إصغاء لدعوة الحق وكلام الله - عز وجل - لاستحواذ الباطل على أنفسهم ، وزين الكفر والظلم على قلوبهم بل كانوا (
ينهون عنه وينأون عنه ) ( 6 : 26 ) ، ومن ذلك قوله فيهم : (
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) ( 41 : 26 ) (
وما كانوا يبصرون ) ما يدل عليه من آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، أي إنهم لشدة انهماكهم في الكفر ولوازمه من الباطل واتباع الهوى والشهوات ، صاروا يكرهون الحق والهدى كراهة شديدة ، بحيث يثقل عليهم سماع ما يبينه من الآيات السمعية ، وما يثبته من الآيات البصرية ، وليس المراد
[ ص: 49 ] أنهم فقدوا حاستي السمع والبصر فصاروا صما وعميانا بالفعل ; بل هم كما يقول أمثالهم فيما يبغضون : إنني لا أطيق رؤية فلان ، ولا أقدر أن أسمع كلامه ، وتذكر أو راجع قوله - تعالى - لنبيه في سورة يونس : )
ومنهم من يستمعون إليك ) ( 10 : 42 ) إلخ .
وأمثالهم مشاهدون في كل زمان ومكان ، أعطى رجل مؤمن رجلا متفرنجا منهم كتاب ( ( الوحي المحمدي ) ) الذي شهد له من قرأه من طبقات الناس المختلفة بطلاوة عبارته وحسن بيانه ، وموافقة أسلوبه وترتيبه وتبويبه لذوق هذا العصر ، ثم سأله بعد أيام : كيف رآه ؟ ظانا أنه قرأه كله بشغف وأنه سيشكر له هديته ، فقال : إنني لم أستطع أن أقرأ منه صفحة واحدة ، واعترف بأنه يقرأ كتب أشهر الملاحدة الطاعنين في القرآن بلذة ورغبة كما يقرأ القصص ( الروايات ) الغرامية ! ! ! !
(
أولئك الذين خسروا أنفسهم ) أي أولئك الموصوفون بما تقدم هم الذين خسروا أنفسهم بافترائهم على الله ، واشتراء الضلالة بالهدى ، فإنهم دسوها وما زكوها في الدنيا ففقدوها في الآخرة ، وأي وجود لمن يصلى النار الكبرى ، فلا يموت فيها ولا يحيا (
وضل عنهم ما كانوا يفترون ) من اتخاذ الشفعاء عند الله ، والأولياء الذين زعموا أنهم يقربونهم إليه زلفى ، وقد سبق بهذا المعنى من سورة الأعراف في سياق نداء أصحاب الجنة أصحاب النار : (
فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون ) ( 7 : 44 و 45 ) .
(
لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) كلمة لا جرم تفيد التحقيق والتأكيد لما بعدها ; قال الفراء : هي في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة ، ثم كثرت فحولت إلى معنى القسم وصارت بمعنى ( ( حقا ) ) ولهذا تجاب باللام نحو : لا جرم لأفعلن كذا ، أي حقا إنهم في الآخرة لأشد الناس خسرانا . وترى مثل هذا في أول سورة النمل ، بهذا وصف الفريق الذي لا يؤمن بالقرآن هنا ، وإن كان فيه من يقول بلسانه أنه يؤمن به ، ويليه الفريق الآخر - جعلنا الله من خياره وأنصاره - وهو :
(
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ) أي خشعوا له واطمأنت نفوسهم بالإيمان ، ولانت قلوبهم إلى ذكره ، فلم يبق فيها زلزال ولا اضطراب .
وأصل الإخبات قصد الخبت وهو المكان المطمئن المنخفض من الأرض والنزول فيه ، يقولون : أخبت الرجل ،
[ ص: 50 ] كما يقولون : أنجدوا أسهل وأنهم . ويقال : أخبت إليه وأخبت له ، ومن الثاني : (
وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) ( 22 : 54 ) وذكر هؤلاء العلماء المخبتين في سورة الحج وسطا بين الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم من إلقاء الشيطان ، وبين الكافرين الذين (
لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ) ، فعلم منه أنه ليس للشيطان عليهم من سبيل ، وما أحسن ما فعله الراغب من التنظير بين هؤلاء المخبتي القلوب ، وبين من قال فيهم : (
وإن منها لما يهبط من خشية الله ) ( 2 : 74 ) (
أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) أولئك المتصفون بما ذكر أصحاب الجنة المستحقون لها بالذات الخالدون فيها أبدا .
( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) أي مثل الفريقين من الكافرين والمؤمنين اللذين تقدم وصفهما وبيان حالهما ، في هذه الآيات المبينة لابتلائه - تعالى - للناس ليظهر أيهم أحسن عملا ، والصفة الحسية المطابقة لحالهما ، كمثل الأعمى الفاقد لحاسة البصر في خلقته ، والأصم الفاقد لحاسة السمع ، كذلك في حرمانه من مصادر العلم والعرفان الإنسانية والحيوانية ، ومن هو كامل حاستي البصر والسمع كلتيهما ، فهو يستمد العلم من آيات الله في التكوين والتشريع بما يسمع من القرآن وبما يرى من الأكوان ، وهما الينبوعان اللذان يفيضان العلم والهدى على عقل الإنسان (
هل يستويان مثلا ) أي هل يستوي الفريقان صفة وحالا ومبدأ ومآلا ؟ كلا إنهما لا يستويان (
أفلا تذكرون ) أي أتجهلون أيها المخاطبون هذا المثل الحسي الجلي ، أو أتغفلون عنه فلا تتذكرون ما بينهما من التباين فتعتبروا به ؟ أي يجب أن تتفكروا فتتذكروا فتعتبروا وتهتدوا .
شبه فريق الكافرين أولا بالأعمى في عدم استعمال بصره فيما يفضل به بصر الحيوان الأعجم ، من فهم آيات الله التي تزيده علما وعقلا وهدى روحيا ، ثم شبهه بالأصم كذلك بدليل عطفه على الأعمى ليتأمل العاقل كل تشبيه وحده ، وأما قوله - تعالى - في المنافقين : (
صم بكم عمي ) ( 2 : 18 ) بدون عطف ، فالمراد به من أول وهلة : التهويل بجمعهم للنقائص الثلاث كلها دفعة واحدة فلم يبق في استعدادهم منفذ للهدى ، ولذلك عطف عليه بفاء السببية قوله في الآية : ( فهم لا يرجعون ) ( 2 : 18 ) وفي الآية : (
فهم لا يعقلون ) ( 2 : 171 ) ومن الإيجاز في الآية عطفه هذه الصفات المتقابلة للفريقين ، وتركه للسامع والقارئ التوزيع ، والتفريق بين ما لكل منهما من التشبيهين المتضامنين .