قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين
الآية الأولى من هاتين الآيتين خاتمة قصة
نوح - عليه السلام - والتي تليها استدلال بها على نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد وردت كل منهما مفصولة مما قبلها غير معطوفة عليه .
ولولا الفصل بين الأولى وبين آية : (
وقيل ياأرض ابلعي ماءك ) ( 44 ) لما بيناه من الحكمة في ذلك
[ ص: 74 ] لكان الوجه أن تعطف عليها ، إما مع إعادة القيل ، وإما بدونه بأن يقال : ( (
يانوح اهبط بسلام منا ) ) ولكن الفصل بالآيات الثلاث في مسألة
نوح وولده صار مانعا من الوصل بما قبله ومقتضيا أن تذكر مفصولة على الاستئناف البياني الذي هو جواب عن سؤال مقدر ، وأن يبدأ بفعل ( ( قيل ) ) المجهول ; لأنه هو المتعين المعلوم .
(
قيل يانوح اهبط بسلام منا ) أي : قال الله عز وجل ، الذي بيده ملكوت كل شيء ، وعالم الغيب والشهادة ، ومدبر أمر العالم كله
لنوح ؛ بعد انتهاء أمر الطوفان ، وإقلاع السماء عن إمطارها ، وابتلاع الأرض لمائها ، وإمكان السكنى والعمل على ظهرها : يا
نوح اهبط من السفينة أو من الجودي الذي استوت عليه إلى الصفصف المستوي منها ، ملابسا أو مزودا وممتعا بسلام من عظمتنا ورحمتنا الربانية ، وهو التحية والسلام من الفتن والعداوة التي أحدثها المشركون الظالمون فيها ، (
وبركات ) في المعايش وسعة الرزق فائضة (
عليك وعلى أمم ممن معك ) أي : وعلى من معك الآن في السفينة ، وعلى ذريات يتناسلون منهم ويتفرقون في الأرض ، فيكونون أمما مستقلا بعضهم دون بعض ، وهم ممتعون بهذا السلام المعنوي والبركات المادية ، ويجوز أن يشمل لفظ الأمم ما كان مع
نوح من أنواع الحيوان ، فقد قال - تعالى - : (
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) ( 6 : 38 ) (
وأمم سنمتعهم ) أي : وثم أمم آخرون من بعدهم سنمتعهم في الدنيا بأرزاقها وبركاتها دون السلام الرباني ، الممنوح من الألطاف الرحماني ، لسليمي الفطرة من المؤمنين ، فإن أولئك سيغويهم الشيطان الرجيم ، ويزين لهم الشرك بربهم ، والظلم والبغي فيما بينهم (
ثم يمسهم منا عذاب أليم ) في الدنيا والآخرة لأنهم لا يحافظون على السلام الذي كان عليه من قبلهم ، بل يبغي بعضهم على بعض لتفرقهم واختلافهم في هداية الدين ، التي نبعث بها المرسلين ، كما وقع لك مع قومك الأولين .
هذا هو المتبادر من معنى هذه الآية ، وما بيناه في تفسير ما قبلها من آيات القصة هو المتبادر من مدلول ألفاظها الفصيحة نصا واقتضاء ، الموافق لسنن الله - تعالى - في الأمم ، فهي لا تحتمل كثرة الآراء التي قرنت بها ، لولا كثرة الروايات الغريبة التي غشيتها ، حتى ما لا يقبله اللفظ ولا الشرع ولا العقل منها ، وسنبين مجامع العبرة فيها .
(
تلك من أنباء الغيب ) الإشارة إلى قصة
نوح المفصلة هذا التفصيل البديع ، (
من أنباء الغيب ) الماضية (
نوحيها إليك ) أيها الرسول في هذه السورة ، متمما ومفصلا لما أوحيناه إليك قبلها (
ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) الوحي الذي نزل مبينا لها ، والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعلمها هو ، ولا قومه يعلمونها بهذا التفصيل ، وقد كان هو
[ ص: 75 ] يعلمها بالإجمال ، وهو لا يمنع أن يكون بعضهم قد علم منه أو من غيره شيئا ما منها ، ولو كان قومه وهم
قريش يعلمونها على الوجه المنفي هنا وأكثرهم كافرون به لكذبوه ، ولنقل تكذيبهم الخاص له فيها ؛ كما نقل تكذيبهم العام للقصص كلها ، إذ قالوا إنه افتراها ، ولكن هذا طعن مفتعل في شيء لا يعلم من قبلهم ، وقد تحدوا فيه بما قامت به الحجة عليهم ، وأما تكذيبه الخاص فيما يعلم من ناحيتهم - وهو العلم بهذه القصة من قبل هذا - فلو وقع لكان يكون حجة ولو ظاهرة لهم ، ولكنه لم يقع فتمت به الحجة عليهم وعلى من بعدهم (
فاصبر إن العاقبة للمتقين ) أي فاصبر كما صبر
نوح على قومه ، فإن
سنة الله في رسله وأقوامهم أن تكون العاقبة بالفوز والنجاة للمتقين ، وأنت ومن اتبعك المتقون ، فأنتم الناجون المفلحون ، والمصرون على عداوتك هم الخاسرون الهالكون ، فارتقب إنهم مرتقبون .