(
قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) قرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ( ( كثير ) ) بالمثلثة من الكثرة وقرأ الباقون ( ( كبير ) ) من الكبر ، والإثم : كل ما فيه ضرر وتبعة من قول وعمل; أي : قل أيها الرسول : إن في تعاطي الخمر والميسر إثما كثير المفاسد وذنبا كبير الضرر ، وإنما كان إثم الخمر كبيرا; لأن مضراتها والتبعات التي تعقبها كبيرة ، والضرر يكون في البدن والنفس والعقل والمال ، ويكون في التعامل وارتباط الناس بعضهم ببعض ، ولا يوجد إثم من الآثام كالخمر يدخل ضرره في كل شيء من الأفعال ومن الأقوال ، وأنواع هذا الضرر كثيرة ، فمن
مضرات الخمر الصحية إفساد المعدة والإقهاء - فقد شهوة الطعام - وتغيير الخلق، فالسكارى يسرع إليهم التشوه ، فتجحظ أعينهم ، وتمتقع سحنتهم ، وتعظم بطونهم; بل قال أحد أطباء الألمان : إن السكور - كثير السكر - ابن الأربعين يكون نسيج جسمه كنسيج جسم ابن الستين ، ويكون كالهرم جسما وعقلا ، ومنها مرض الكبد والكلى ، وداء السل الذي يفتك في البلاد الأوربية فتكا ذريعا على عناية أهلها بقوانين الصحة ، ولكن لا وقاية من شرور السكر إلا بتركه ، وقد قيل : إن نحو نصف الوفيات في بعض بلاد أوربا بداء السل ، ولم يكن هذا الداء معروفا أو منتشرا في مثل هذه البلاد -
مصر - قبل شيوع السكر فيها ، فهو من الأدواء التي حملها إليها
الأوربيون ، وقد كثر كثرة فاحشة في
مصر على أن جوها لا يساعد على انتشاره .
وأما ضرر الخمر في العقل فهو مسلم عند الناس ، وليس ضرره فيه خاصا بما يكون من فساد التصور والإدراك عند السكر; بل السكر يضعف القوة العاقلة ، وكثيرا ما ينتهي بالجنون ، ولأحد أطباء ألمانيا كلمة اشتهرت كالأمثال وهي ( ( اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات والبيمارستانات والملاجئ - التكايا - والسجون ) ) .
وقد قال الأطباء : إن المسكر لا يتحول إلى دم كما تتحول سائر الأغذية بعد الهضم ، بل يبقى على حاله ، فيزاحم الدم في مجاريه فتسرع حركة الدم ، وتختل موازنة الجسم ، وتتعطل وظائف الأعضاء أو تضعف ، وتخرج عن وضعها الطبيعي المعتدل .
فمن تأثيره في اللسان إضعاف حاسة الذوق ، وفي الحلق الالتهاب ، وفي المعدة ترشيح العصارة الفاعلة في الهضم حتى يغلظ نسيجها وتضعف حركتها ، وقد يحدث فيها احتقانا
[ ص: 260 ] والتهابا ، وفي الأمعاء التقرح ، وفي الكبد تمديده وتوليد الشحم الذي يضعف عمله ، وكل هذا يتعلق بما يسمونه الجهاز الهضمي .
ومن تأثيره في الدم أنه بممازجته له يعوق دورته وقد يوقفها أحيانا فيموت السكور فجأة ، ويضعف مرونة الشرايين فتتمدد وتغلظ حتى تنسد أحيانا فيفسد الدم، ولو في بعض الأعضاء، فتكون الغنغرينا التي تقضي بقطع العضو الذي تظهر فيه لئلا يسري الفساد إلى الجسد كله فيكون هالكا ، وتصلب الشرايين يسرع الشيخوخة والهرم .
ومن تأثيره في جهاز التنفس إضعاف مرونة الحنجرة ، وتهييج شعب التنفس ، وأهون ضرر ذلك بحة الصوت والسعال ، وأعظمها تدرن الرئة; أي : السل الفاتك بالشبان والقاطع لجميع لذات الإنسان .
وأما تأثيره في المجموع العصبي فهو الذي يولد الجنون ويهلك النسل ، فولد السكور لا يكون نجيبا ، وولد ولده يكون شرا من ولده وأضعف بدنا وعقلا ، وقد يؤدي تسلسل هذا الضعف إلى انقطاع النسل ألبتة ، ولا سيما إذا جرى الأبناء على طريق الآباء كما هو الغالب .
ومن مضرات الخمر في التعامل وقوع النزاع والخصام بين السكارى بعضهم مع بعض ، وبينهم وبين من يعاشرهم ويعاملهم ، تثير ذلك أدنى بادرة من أحدهم ، فيوغلون فيه حتى يكون عداوة وبغضاء . وهذه العلة في التحريم من أكبر العلل في نظر الدين; ولذلك ورد بها النص في سورة المائدة : (
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ) ( 5 : 91 ) .
ومنها إفشاء السر ، وهو ضرر يتولد منه مضرات كثيرة ، ولا سيما إذا كان السر يتعلق بالحكومة وسياسة الدولة ومصالحها العسكرية ، وعليها يعتمد الجواسيس .
ومنها الخسة والمهانة في أعين الناس; فإن السكران يكون في هيئته وكلامه وحركاته بحيث يضحك منه ويستخف به كل من يراه، حتى الصبيان; لأنه يكون أقل منهم عقلا ، وأبعد عن التوازن في حركاته وأعماله ، والضبط في أفكاره وأقواله ، وينقلون عن السكارى من النوادر الغريبة ما يكفي في ردع من له شرف وعقل عن الخمر ، فيراجع ذلك في كتب الأدب والمحاضرة ، ومما ذكر عن المحدثين : أن
nindex.php?page=showalam&ids=12455ابن أبي الدنيا مر بسكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ ، ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا ، وعرض بعضهم شرب الخمر على أحد فصحاء المجانين فقال له المجنون : أنت تشرب لتكون مثلي ، فأنا أشرب لأكون مثل من ؟
[ ص: 261 ] ومنها أن جريمة السكر تغري بجميع الجرائم التي تعرض للسكران وتجرئ عليها ، ولا سيما الزنا والقتل ، وبلغني أن جميع الذين يختلفون إلى مواخير الزنا لا يذهبون إليها إلا وهم سكارى; لأن غير السكران تنفر نفسه من هذه القاذورات المبتذلة مهما تكن خسيسة; ولذلك سميت الخمر أم الخبائث كما ورد في الحديث ، فهذه إشارة إلى مضراتها في النفس من حيث الأخلاق والآداب .
ومن مضراتها المالية أنها تستهلك المال وتفني الثروة كما قال
عنترة :
فإذا شربت فإنني مستهلك مالي وعرضي وافر لم يكلم
ولم تكن الخمر مذهبة للثروة في زمن من الأزمنة كزماننا هذا ، ولا في مكان كهذه البلاد; فإن أنواع الخمر كثرت فيها ، ومنها ما هو غالي الثمن جدا ، ثم إن المتجرين بها كثيرا ما يقرنون بينها وبين القيادة إلى الزنا ، وفي
مصر القاهرة بيوت للفسق تجمع بين الخمر والنساء والراقصات والمغنيات ، يدخلها الرجال زرافات وأفذاذا ، ويتبارون ثم في النفقة حتى ليخسر الرجل في ليلته المئين والألوف . وإن الخمار الرومي الفقير ليفتح في إحدى القرى والمزارع من هذه البلاد حانة صغيرة فلا تزال تتسع بما تبتلع من ثروة الأهالي وغلات أرضهم حتى تبتلع القرية كلها، فتكون أموالها وغلاتها وقطنها وتجارتها في يد ( الخواجة ) صاحب الحانة .
وقد عم البلاء بالخمر هذا القطر بما لأهله من الاستعداد للتقليد حتى قيل : إن ما يصرف في
مصر على الخمر يعدل ما يصرف في
فرنسا كلها .
ومن مضرات الخمر في الدين من حيث روحه ووجهة العبد إلى الله تعالى أن السكران لا تتأتى منه عبادة من العبادات ولا سيما الصلاة التي هي عماد الدين; ولذلك قال تعالى في آية المائدة بعد ما تقدم آنفا : (
ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ) وسيأتي إيضاح هذا المعنى في تفسير سورة المائدة إن شاء الله تعالى .
فهذا شيء من البيان لكون إثم الخمر كبيرا بمعنى أن كبره بكبر ضرره ، أو كونه كثيرا لكثرة أنواعه ، وقد يشتبه بعض المبتلين بشرب الخمر في بعض تلك المضرات الصحية ، أو يتوهمون أنه يسهل عليهم التوقي منها ، وهيهات هيهات لما يتوهمون; فإن المزاج الذي يتحمل سم الخمر - الذي يسمى الكحول أو الغول - زمنا طويلا بحيث يغتر الناس بحسن صحة صاحبه قليل في الناس ، ولكن هؤلاء المبتلين يقيسون على النادر ويجهلون الأصل الغالب ، وهو أنه لا يكاد يسلم مدمن السكر من ضرره في جسمه أو عقله ومداركه أو ولده وذريته ، بل تجتمع كلها في الغالب . وأما المضرات المعنوية فيقل في معتادي السكر من يحفل بها ، على أن منهم من يرى أنه يسهل عليه تجنبها .