قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ( 91 )
قال ياقوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ( 92 )
ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ( 93 )
ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( 94 )
كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( 95 ) .
هذه الآيات الخمس في بيان
تحول قوم شعيب عن مجادلته بالتي هي أحسن إلى الإهانة والتهديد ، ومقابلته إياهم بالإنذار بقرب الوعيد ، ونزول العذاب الشديد ، ووقوع ذلك بالفعل العتيد .
[ ص: 122 ] -
قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول - حققنا في تفسير سورة الأعراف ( 7 : 179 ) أن الفقه في اللغة أخص من الفهم والعلم ، وهو الفهم الدقيق العميق المؤثر في النفس الباعث على العمل ، أي : ما نفقه كثيرا مما ترمي مما وراء ظواهر أقوالك من بواطنها وتأويلها ؛ كبطلان عبادة آلهتنا وقبح حرية التصرف في أموالنا ، وعذاب محيط يبيدنا ، وإصابتنا بمثل الأحداث الجوية التي نزلت بمن قبلنا ، كأن أمرها بيدك وتصرفك أو تصرف ربك ، يصيب بها من تشاء أو يشاء لأجلك ، -
وإنا لنراك فينا ضعيفا - لا حول لك ولا قوة تمتنع بها منا إن أردنا أن نبطش بك ، وأنت على ضعفك تنذرنا العذاب المحيط الذي لا يفلت منه أحد -
ولولا رهطك - أي : عشيرتك الأقربون - والرهط : الجماعة من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة -
لرجمناك - لقتلناك شر قتلة ، وهي الرمي بالحجارة حتى تدفن فيها -
وما أنت علينا بعزيز - أي بذي عزة ومنعة علينا تحول بيننا وبين رجمك ، وإنما نعز رهطك ونكرمهم على قلتهم لأنهم منا وعلى ديننا الذي نبذته وراء ظهرك ، وأهنته ودعوتنا إلى تركه لبطلانه وفساده في زعمك .
-
قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله - هذا استفهام إنكاري ، أي : أرهطي أعز وأكرم عليكم من الله الذي أدعوكم إليه بأمره -
واتخذتموه وراءكم ظهريا - أي أشركتم به وجعلتموه كالشيء اللقا الذي ينبذ وراء الظهر لهوانه على نابذه وعدم حاجته إليه ، فينسى حتى لا يحسب له حساب . تقول العرب : جعله بظهر وظهريا واتخذه ظهريا بالكسر والتشديد ، أي نسيا منسيا لا يذكر كأنه غير موجود ، وكسر الظاء من تصرفهم في النسب ، وكان القوم يؤمنون بالله ويشركون به ، ولا عجب من حالهم هذه فإنه شأن أكثر الناس اليوم ، لا يراقبون الله في أقوالهم ولا في أعمالهم فيرجوه إذا أحسنوا ، ويخافوه إذا أساءوا ، أو فيمتنعوا عن الإساءة ويتسابقوا إلى الإحسان ابتغاء مرضاته -
إن ربي بما تعملون محيط - علما فهو يحصيه عليكم ويجزيكم به ، وأما رهطي فلا يستطيعون لكم ضرا ولا نفعا .
-
ويا قوم اعملوا على مكانتكم - هذا أمر تهديد ووعيد من واثق بقوته بربه ، على انفراده في شخصه ، وضعف قومه على كثرتهم ، وإدلالهم عليه وتهديدهم له بقوتهم ، أي اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم وعصبيتكم ( من مكن مكانة كضخم ضخامة - إذا تمكن كل التمكن مما هو فيه وبصدده ) أو على مكانكم الذي أنتم فيه ، إذ يقال : مكان ومكانة ( كمقام ومقامة ) -
إني عامل - على مكانتي التي أعطانيها أو وهبنيها ربي من دعوتكم إلى التوحيد وأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر -
سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب - هذا تصريح بالوعيد بعد التلميح له بالأمر بالعمل المستطاع للتعجيز ،
[ ص: 123 ] وهو جواب سؤال مقدر على طريق الاستئناف البياني ; ولذلك لم يقرن بالفاء كقوله في سورة الأنعام :
قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار 6 : 135 إذ المراد هنالك أن ما قبل " سوف " سبب لما بعدها ، وقطعها هنا أشد مبالغة في الوعيد والتهديد ; لاقتضاء تهديد الكفار إياه بالرجم ، أن يبالغ في تهديدهم وإظهار عزة الله ورسوله بالحق .
وتقديرهما : فإن قلتم : ماذا يكون من أمرك ؟ أقل لكم : -
سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه - ويذله . أنا أم أنتم ، - ومن هو كاذب - في قوله ومن هو صادق مني ومنكم ؟ وقد كانوا أنذروه غير الرجم الذي وجد المانع منه : أنذروه إنذارا مؤكدا بالقسم ما حكاه الله عنهم بقوله : -
قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا - 7 : 88 إلخ . فهو يعرض بكذبهم في كل ما صدر عنهم مما حكاه الله عنهم هنا وهناك ، موقنا بوقوع ما أنذرهم به ، وهو برهان على أنه على بينة من الله به -
وارتقبوا إني معكم رقيب - وانتظروا مراقبين لما سيقع إني معكم مراقب منتظر له ، رقيب هنا بمعنى مراقب ، كعشير بمعنى معاشر ، ويجوز أن يكون بمعنى فاعل .
-
ولما جاء أمرنا - بعذابهم الذي أنذروه -
نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا - خاصة بهم دون أحد من القوم كما تقدم مثله قريبا -
وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين - أي أخذتهم صيحة العذاب التي أخذت
ثمود فأصبحوا كلهم ميتين باركين على ركبهم ، مكبين على وجوههم في ديارهم .
-
كأن لم يغنوا فيها - أي كأنهم لم يقيموا فيها وقتا من الأوقات -
ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود - أي هلاكا لهم وبعدا من رحمة الله كبعد الهلاك واللعنة التي عوقبت بها
ثمود من قبلهم فإنهما من جنس واحد ، وهو الصيحة كما في الآية 67 وسيأتي مثله في سورة الحجر ، أولا : في
قوم لوط ( 15 : 73 ) وذكرناه في قصتهم هنا ، وثانيا : في أصحاب الحجر وهو
ثمود - فأخذتهم الصيحة مصبحين - 15 : 83 وكذا في سورة المؤمنون بدون تصريح باسمهم : -
فأخذتهم الصيحة بالحق - 23 : 41 وفي سورة القمر : -
إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر - 54 : 31 وتقدم في عذاب
ثمود ومدين من سورة الأعراف أنهم "
أخذتهم الرجفة " كما في آيتي ( 7 : 78 و 91 ) ومثلهما آية ( 155 ) في السبعين المختارين من
قوم موسى ، وسيأتي أيضا في
مدين من سورة العنكبوت : -
فكذبوه فأخذتهم الرجفة - 29 : 37 إلخ . وفي سورة فصلت : " حم السجدة " في
ثمود : -
فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون - 41 : 17 وفي سورة الذاريات : -
فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون - 51 : 44 فعلم بهذا أن المراد بالصيحة صوت الصاعقة ، وفي ( 2 : 55 و 4 : 153 ) أن الصاعقة أخذت
بني إسرائيل الذين قالوا
لموسى : أرنا الله
[ ص: 124 ] جهرة ، ولكن الله - تعالى - أحياهم عقبها : والرجفة : هي الهزة والاضطرابة الشديدة ، وهي تصدق باضطراب أبدانهم وأفئدتهم كأرضهم ، فالجامع بين هذه الألفاظ أن
الله - تعالى - أرسل على كل من ثمود ومدين صاعقة ذات صوت شديد ; فرجفوا أو رجفت أرضهم وزلزلت من شدتها وخروا ميتين ، فكانت صاعقتهم أشد من صاعقة
بني إسرائيل ; لأن هذه تربية لقوم نبي في حضرته ، وتلك صاعقة كانت عذاب خزي وهوان لمشركين ظالمين معاندين أنجى الله نبي كل منهم ومؤمنيهم قبلها ، وأما قول بعض المفسرين : إن الصيحة التي أخذت
ثمود ومدين كانت صيحة من
جبريل - عليه السلام - ، فهو من أخبار الغيب التي لا تقبل إلا من نصوص الوحي ولا نص ، فتعين أنه من الرجم بالغيب .
وقد بينا أسباب الصواعق مرارا آخرها في تحقيق الجمع بين هذه الآيات في هلاك
ثمود من سورة الأعراف .
ومن دقيق نكت البلاغة في الآيات قوله - تعالى - في إهلاك
مدين هنا : -
ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا - إلخ . فعطف " لما " على ما قبلها بالواو ، ومثله في
قوم هود ، ولكنه عطفها بالفاء في قصة
ثمود ( 66 ) وقصة
قوم لوط . ووجه هذا الأخير أن الآيتين جاءتا عقب الإنذار بالعذاب واستحقاقه وحلول موعده فعطفتا بالفاء الدالة على التعقيب . وأما عطف مثلهما في
قوم هود وقوم شعيب فليس كذلك ، فعطف بالواو على الأصل في العطف المطلق .
أما الأول فظاهر لأنه ليس قبل الآية وعيد بالعذاب ، وأما الثاني ففيه وعيد مسوف فيه مقرون بالارتقاب لا الاقتراب ، فلا يناسب العطف عليه الفاء التي تفيد التعقيب بدون انفصال ، فهل تصادف مثل هذه الدقائق اللغوية في غير القرآن ؟ .