( الفصل الثالث :
آياته - تعالى - في الخلق والتقدير ، والتصرف والتدبير ) :
( وفيه أربعة شواهد على ما قبله ) :
الشاهد الأول : قوله - تعالى - بعد آية توحيد العبادة للإله الواحد استدلالا عليه بتوحيد الربوبية : -
وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا - 3 إلخ . فهو صريح في أن رب الناس هو الذي يعطيهم ما يتمتعون به من منافع الدنيا المادية الجسدية ، وما يفضل به بعضهم بعضا من الفضائل النفسية من علم وأدب وخلق ، وأن الوسيلة لهذا وذاك بعد الإيمان بوحدانيته ولقائه في الآخرة هي استغفاره من كل ذنب ، والتوبة من كل تقصير في طاعته ، والرجوع إليه عقب كل إعراض عن آيات هدايته ، ليس لغيره تأثير شخصي في إعطاء هذا ولا ذاك بتصرفه بنفسه ، ولا بشفاعته عنده ، فيدعى من دونه أو يتوجه إليه معه في طلبه ، ومن راقب نفسه وحاسبها في هذا شاهد تأثيره في نفسه ، فازداد إيمانا بربه ، وشاهده في غيره من الموحدين المستغفرين التوابين ، وضده في المشركين والمصرين على ذنوبهم وجرائمهم ، فإنه يرى أكثر هؤلاء متاعا في هم واصب ، وتنغيص دائب ; لأن سعادة الدنيا من صفات النفس ، لا من كثرة الأعراض في اليد .
ولهذا
كان رسل الله الأولون يأمرون أقوامهم بعد التوحيد بالاستغفار والتوبة أيضا كما ترى في الآية ( 52 ) من قصة
هود ، وقد جعل جزاءه إرسال المطر عليهم وهو سبب سعة الرزق ، وزيادة القوة البدنية لهم ، إذ كان هذان أهم ما يطلبه قومه من ربهم ، ويتوسلون إلى ما يعجزون عنه منه بآلهتهم ، وفي الآية ( 61 ) من قصة
صالح ، وقد بني الأمر فيها على ما سبق من فضله - تعالى - على قومه بسعة الرزق واستعمارهم في الأرض ، وفي معناها الآية ( 90 ) من قصة
شعيب عليهم السلام .
الشاهد الثاني : قوله - تعالى - : -
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها - 6 الآية . أي : عليه وحده ، فإنه لم يشاركه في خلق رزق هوامها وأنعامها وطيرها ووحشها وإنسها وجنها أحد من الأنداد الذين اتخذهم المشركون ، ولا يشاركه أحد منهم في تسخير هذا الرزق لها ، ولا في إيصاله إليها بشفاعة ولا وساطة أخرى بينه وبينها ، فلذلك لم يشرك به أحد منها ولا من غيرها من خلقه غير بعض الإنس والجن المكلفين .
[ ص: 168 ] الشاهد الثالث : قوله بعدها وهو دليل على مضمونها : -
خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء - 7 الآية ، أي : خلقهما وما كان يوجد معه أحد من هؤلاء الشفعاء والأولياء المزعومين ، فهو غني عنهم الآن وفي كل آن ، كما كان غنيا عنهم عند بدء التكوين ، وراجع ما فصلناه في تفسيرها من خلق كل شيء حي من الماء ، تر فيه من عجائب قدرته وحكمته ما يربأ بكل عاقل أن يجعل له وسيطا بينه وبين خلقه من هذا الإنسان الضعيف كما وصفه خالقه القوي القدير .
الشاهد الرابع : الآيات ( 9 و 10 و 11 ) في بيان أحوال الناس فيما يذيقهم ربهم بحكمته من البأساء والضراء ، في هذه الحياة الدنيا دار البلاء ، وأصنافهم فيها من يائس كفور ، وفرح فخور ، وصبور شكور ، فبهذا التقسيم المشهود المخبور ، تعرف توحيد الله - تعالى - وفضله على المؤمنين الموحدين ، وجدارتهم بسعادة الدارين ، واستحالة أن يكون له شريك في فضله عليهم ، أو وسيط في نعمه وتكريمه لهم .