( الثالثة : بيناتهم وآياتهم )
ما من نبي دعا قومه إلى الله إلا وجاءهم ببينة على صدقه في دعواه من حجة عقلية وآية كونية ، وكانت تشتبه على عامتهم الآيات الكونية بالسحر ; لأنهم يرون أن كلا منهما أمر غريب لا يعرفون سببه ، ويرونه من الدجالين والمرتزقة ،
[ ص: 173 ] وكان المهتدون هم الذين يميزون بين الفريقين بالبينات العقلية ، والهداية الخلقية والعملية ، وكذلك الجاحدون المعاندون منهم .
بينت لنا هذه السورة أن كل رسول كان يحتج ويستدل على قومه بأنه على بينة من ربه ، وليس فيها ولا في غيرها أن كلا منهم تحدى قومه بآية كونية كما تحدى
موسى فرعون وملأه ، وكما تحدى
محمد قومه ، والإنس والجن معهم ، ومن استطاعوا ليظاهروهم على معارضة القرآن بمثله في مزايا إعجازه العامة الظاهرة في كل سورة منه ، ومزايا إعجازه المكررة في عشر سور مما ادعوا افتراءه منه ، ثم إنه بعد التحدي بعشر مثله مفتريات في الآية ( 13 ) من هذه السورة ، وبعد تقرير عجزهم عن المعارضة في الآية ( 14 ) قال في تقرير الحجة العقلية والنقلية التاريخية : -
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة 17 .
ثم قال في حجة
نوح : -
قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم - 28 الآية ، وحكى عن قوم
هود أنهم -
قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين - 53 لكنه كذبهم بعد ذلك بقوله عز وجل : -
وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله - 59 الآية .
ثم قال في قصة
صالح : -
قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة - 63 الآية ، وذكر بعدها آيته الكونية التي أنذرهم العذاب بها فقال : -
ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية - 64 إلخ . ثم قال في قصة
شعيب : -
قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا - 88 الآية ، ثم قال : -
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه - 96 و 97 الآية .
ومن المعلوم القطعي أن هذه الآيات وغيرها ليست من أعمال أولئك الرسل وكسبهم ، ولا في حدود استطاعتهم ، فآية خاتمهم الكبرى - وهي كلام الله عز وجل - وكان - صلى الله عليه وسلم - عاجزا عن الإتيان بسورة مثله بعد النبوة ، فعجزه قبلها أظهر ، وناقة
صالح لم تكن من خلقه ولا كسبه ، ولما رأى
موسى آيته الكبرى وهي العصا إذ ألقاها فإذا هي حية تسعى ، ولى مدبرا خائفا منها ، كما ترى في سورتي النمل والقصص .
وأما آيات
عيسى التي أسند إليه فعلها فقد صرح القرآن بأنها كانت بإذن الله - تعالى - وإرادته ، وفي رسائل الأناجيل المتداولة أنه كان يدعو الله - تعالى - ويتضرع إليه بطلبها ليؤمنوا به ويعلموا أنه يستجيب له ، وقد قال
اليهود إنها سحر مبين .
وأهل هذا العصر يوردون عليها شبهات من غرائب صوفية الهنود وغيرهم من الروحانيين ، كما بيناه في كتاب الوحي
[ ص: 174 ] المحمدي ، وبينا أن آيات
موسى كانت أعظم منها مظهرا ، وأدل على قدرة الله - تعالى - وتأييده له ، لإيمان أعلم علماء السحر بها ، ولم تكن فتنة للناس
بموسى كما كانت تلك فتنة للناس
بعيسى إذ اتخذوه بها إلها ، فالذين فتنوا وضلوا بخوارق العادات الصورية من الأولين والآخرين ، أضعاف أضعاف الذين اهتدوا بالحقيقي منها ، فإن الملايين من مدعي اتباع
عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - يتبعون الدجالين المدعين للتصرف في الكون بأنفسهم أو باستخدامهم للجن ، وسدنة قبور الأولياء والقديسين الذين يدعون التصرف لمن تنسب إليهم ، وكل هؤلاء يجهلون حقيقة الإيمان الذي بعث الله به جميع رسله ووظيفة رسالاتهم .