الباب الخامس :
( في صفات النفس وأخلاقها من الفضائل والرذائل التي هي مصادر الأعمال من الخير والشر والحسنات والسيئات والصلاح والفساد وفيه فصلان ) :
مقدمة في
أسلوب القرآن المعجز في الأخلاق والفضائل والرذائل :
للحكماء والصوفية والأدباء والشعراء مناهج وأساليب مختلفة في علم الأخلاق وما يترتب عليها من الأعمال خيرها وشرها ، والعادات حسنها وقبيحها ، كما تراه في كتب أهلها من فلسفة وحكم ، وأدب وتربية ، وحكايات تمثيلية لوقائع بين الحاضرين أو أساطير الأولين ، أو على ألسنة الحيوان ، أو خرافات الشياطين والجان ، تبارى في تصنيفها علماء الشعوب في عهد حضارة كل منها ، وفي كل منها فوائد لقرائها بقدر استعدادهم ، وأخطاء ينكرها بعضهم على بعض ، ولم تهتد أمة من الأمم بكتاب منها كما اهتدى أتباع الأنبياء المرسلين الذين آمنوا لهم في دينهم .
وعند الأمم المتدينة كتب مقدسة في أصول أديانها وآدابها يعزى بعضها إلى الوحي الإلهي وبعضها إلى مواعظ الأنبياء والصالحين من سلفها ، وأعلاها الأحاديث الشريفة المسندة إلى نبينا
محمد رسول الله وخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - رويت منثورة متفرقة ، ثم جمعت في دواوين مرتبة ، فما تجد من خير وفضيلة عند هؤلاء الأمم فهو من تأثير اتباع هذه الكتب وما حفظوا وفقهوا منها ، وما تجد من شر وباطل فهو من فلسفة رؤساء الدين والدنيا وإضلالهم إياهم عنها ، أو تحريفهم لها .
[ ص: 180 ] وأما القرآن فلا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء من هذه الكتب في أسلوبه ، ولا في منهاجه وترتيبه ، ولا في تربيته وتأديبه ، ولا في تأثيره فيما يحمده ويرغب فيه ، ولا فيما يذمه ويزجر عنه ، فيه كل ما يحتاج إليه المكلفون لتزكية أنفسهم وتطهيرها عقلا ونفسا وخلقا ، وكأنه ليس فيه شيء منها تصنيفا ووصفا ، فمن تلاه حق تلاوته ، وتدبره ، وجد كل علم وحكمة ، وخير وفضيلة ، وبر ومكرمة ، حاضرا في نفسه ، وكل جهل وشر كان ملتاثا به أو عرضة له كأن بينه وبينه حاجزا كثيفا ، أو أمدا بعيدا ، ولكنه لا يجد شيئا من هذا ولا ذاك في سوره مدلولا عليه بعناوينه كما يجده في أبواب الكتب التي صنفها علماء البشر وفصولها ، فمقاصده ومعانيه ممزوج بعضها ببعض في جميع سوره ، طوالها وقصارها ، بل في جملة آياته منها ، لأجل أنه يرتل بنغمه اللائق به ترتيلا ، ويتعبد بتدبر ما فصله من آياته تفصيلا ، فجملة القول فيه أنه هو أعلى من كل ما عهده البشر وعرفوه صورة ومعنى ، وهداية وتأثيرا ، كما فصلناه في كتاب ( الوحي المحمدي ) مقتبسا من هذا التفسير ، ولا سيما إجمال كل سورة فسرت فيه بعد تفصيل . وتأمله في فصلي هذا الباب ، وما هو ببدع من سائر الأبواب .
يقرأ كثير من الناس هذه السورة فلا يكادون يفطنون لما فيها من بيان فضائل الرسل والمؤمنين التي يجب التأسي بها ، ومساوئ الكفار التي يجب تطهير الأنفس منها ، فمن قرأ منهم تفسيرها في أكثر كتب التفسير المتداولة كانت أشغل شاغل له عن ذلك بمباحث الفنون العربية والمجادلات الكلامية ، والأساطير الإسرائيلية . ومن يهمه العلم الذي يعينه على تهذيب نفسه صار يطلبه من كتب الأخلاق والأدب والتصوف دون القرآن ، وهو هو الذي قلب طباع الأمة العربية كلها وزكى أنفسها وسودها على بدو العالم وحضره منذ الجيل الأول من إسلامها ، إلى أن أعرضوا عن هدايته وأدبه اشتغالا بفلسفة الشعوبية وآدابها ، أو تنازعا في زينة الدنيا وسلطانها ، فكانوا يبعدون عن الحق والعدل والفضل والسيادة والملك بقدر ما يبعدون عن هداية القرآن فيها .
إنني بعد أن كتبت تفسير السورة ونشرته وشرعت في كتابة هذه الخلاصة تأملت السورة في المصحف الشريف وحده ، فوقفت في هذا الباب منها أطول من وقفاتي فيما سبقه من الأبواب ، فرأيت في تضاعيف الآيات من دعوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في فاتحتها وخاتمتها ، ومن قصص الرسل في وسطها ، عشرين مسألة أو أكثر في عقائل الفضائل ومكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال ، ومثلها في فساد النفس باتباع الهوى واجتناب الهدى ، بعضها يخص العقل والفهم ، والعلم والجهل ، وبعضها يخص الخلق والعادة والأعمال ; لهذا جعلت هذا الباب في فصلين أسرد فيهما ما لاح الآن لفهمي منها .