(
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) هذا معطوف ما قبله من الأمر بالإصلاح والنهي عن الإفساد ، ومعناه لا تتزوجوا النساء المشركات ما دمن على شركهن (
ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) أي : والله إن أمة - أي : مملوكة - مؤمنة بالله
[ ص: 279 ] ورسوله خير من مشركة حرة ولو أعجبتكم المشركة بجمالها وبغيره ، وأصل الأمة أموة بالتحريك ، يقال أمت الجارية : صارت أمة ، وأميتها - بالتشديد - جعلتها أمة ، وتأمت صارت أمة (
ولا تنكحوا المشركين ) أي : لا تزوجوهم المؤمنات (
حتى يؤمنوا ) فيصيروا أكفاء لهن (
ولعبد مؤمن خير من مشرك ) أي : ولمملوك مؤمن خير من مشرك حر ( ولو أعجبكم ) المشرك بنسبه أو قوته أو ماله .
وجملة القول أن هؤلاء الذين أشركوا وهم الذين بينكم وبينهم غاية الخلاف والتباين في الاعتقاد لا يجوز لكم أن تتصلوا بهم برابطة الصهر لا بتزويجهم ولا بالتزوج منهم ، وأما الكتابيات فقد جاء في سورة المائدة أنهن حل لنا ، وسكت هناك عن
تزويج الكتابي بالمسلمة وقالوا - ورضيه الأستاذ الإمام - : إنه على أصل المنع وأيده بالسنة والإجماع . ولكن قد يقال : إن الأصل الإباحة في الجميع فجاء النص بتحريم المشركين والمشركات تغليظا لأمر الشرك ويحل الكتابيات تألفا لأهل الكتاب; ليروا حسن معاملتنا وسهولة شريعتنا ، وهذا إنما يظهر بالتزوج منهم; لأن الرجل هو صاحب الولاية والسلطة على المرأة ، فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلا على أن ما هو عليه من الدين القويم يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، والعدل بين المسلمين وغير المسلمين ، وسعة الصدر في معاملة المخالفين ، وأما تزويجهم بالمؤمنات فلا تظهر منه مثل هذه الفائدة; لأن المرأة أسيرة الرجل ولا سيما في ملل ليس للنساء فيها من الحقوق ما أعطاهن الإسلام - وأهل الكتاب وسائر الملل كذلك - فقد يصح أن يكون هذا هو المراد من النصين في السورتين ، وإذا قامت بعد ذلك أدلة من السنة أو الإجماع أو من التعليل الآتي لمنع مناكحة أهل الشرك على تحريم تزويج الكتابي بالمسلمة فلها حكمها لا عملا بالأصل أو نص الكتاب ، بل عملا بهذه الأدلة ، والتعبير بتنكحوا وتنكحوا - بفتح التاء وضمها - يشعر بأن الرجال هم الذين يزوجون أنفسهم ويزوجون النساء اللواتي يتولون أمرهن ، وأن
المرأة لا تزوج نفسها بالاستقلال بل لا بد من الولي; إذ الزواج تجديد قرابة ومودة رحمية بين أسرتين ، وعشيرتين لا يتم ولا تحصل فائدته إلا بتولي أولياء المرأة له مع اشتراط رضاها وإذنها به صراحة في الثيب وسكوتا إقراريا في البكر التي يغلب عليها الحياء .
وقد فسر الجمهور الأمة والعبد في الآية بالرقيق; أي : إن الأمة المملوكة المؤمنة خير من الحرة المشركة ولو أعجبكم جمالها ، وكذلك القن المؤمن خير من الحر المشرك وإن كان معجبا ، وتعلم منه خيرية الحر المؤمن والحرة المؤمنة بالأولى ، وقال آخرون : إن المراد أمة الله وعبد الله; أي : إن المؤمنة والمؤمن كل منهما عبد الله يطيعه ويخشاه، ولذلك كان خيرا ممن يشرك به ، فكان في التعبير بالأمة والعبد إشعار بعلة الخيرية ، بيان ذلك : أنه ليس المراد بالزوجية قضاء الشهوة الحسية فقط ، وإنما المراد بها تعاقد الزوجين على المشاركة في شئون الحياة والاتحاد في كل شيء ، وإنما يكون ذلك بكون المرأة محل ثقة الرجل يأمنها على نفسه
[ ص: 280 ] وولده ومتاعه ، عالما أن حرصها على ذلك كحرصه; لأن حظها منه كحظه ، وما كان الجمال الذي يروق الطرف ليحقق في المرأة هذا الوصف ، ولكن قد يمنعه التباين في الاعتقاد ، الذي يتعذر معه الركون والاتحاد ، والمشركة ليس لها دين يحرم الخيانة ، ويوجب عليها الأمانة ، ويأمرها بالخير ، وينهاها عن الشر ، فهي موكولة إلى طبيعتها ، وما تربت عليه في عشيرتها ، وهو خرافات الوثنية وأوهامها ، وأماني الشياطين وأحلامها ، فقد تخون زوجها ، وتفسد عقيدة ولدها ، فإن ظل الرجل على إعجابه بجمالها ، كان ذلك عونا لها على التوغل في ضلالها وإضلالها ، وإن نبا طرفه عن حسن الصورة ، وغلب على قلبه استقباح تلك السريرة فقد ينغص عليه التمتع بالجمال ما هو عليه من سوء الحال .
وأما الكتابية فليس بينها وبين المؤمن كبير مباينة; فإنها تؤمن بالله وتعبده ، وتؤمن بالأنبياء وبالحياة الأخرى وما فيها من الجزاء ، وتدين بوجوب عمل الخير وتحريم الشر ، والفرق الجوهري العظيم بينهما هو الإيمان بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومزاياها في التوحيد ، والتعبد والتهذيب ، والذي يؤمن بالنبوة العامة لا يمنعه من الإيمان بنبوة خاتم النبيين إلا الجهل بما جاء به ، وكونه قد جاء بمثل ما جاء به النبيون وزيادة اقتضتها حال الزمان في ترقيه ، واستعداده لأكثر مما هو فيه ، أو المعاندة والجحود في الظاهر ، مع الاعتقاد في الباطن ، وهذا قليل والكثير هو الأول ، ويوشك أن يظهر للمرأة من معاشرة الرجل حقية دينه وحسن شريعته، والوقوف على سيرة من جاء بها وما أيده الله تعالى به من الآيات البينات فيكمل إيمانها ، ويصح إسلامها ، وتؤتى أجرها مرتين إن كانت من المحسنات في الحالين ، ومثل هذه الحكمة لا تظهر في تزويج الكتابي بالمؤمنة ، فإنه بما له من السلطان عليها ، وبما يغلب عليها من الجهل والضعف في بيان ما تعلم لا يسهل عليها أن تقنعه بحقية ما هي عليه ، بل يخشى أن يزيغها عن عقيدتها ويفسد منها دون أن تصلح منه ، وهذا المعنى يفهم من تعليل النهي عن مناكحة المشركين في قوله عز وجل :
(
أولئك يدعون إلى النار ) أشار بأولئك إلى المذكورين من المشركين والمشركات; أي : من شأنهم الدعوة إلى أسباب دخول النار بأقوالهم وأفعالهم ، وصلة الزواج أقوى مساعد على تأثير الدعوة; لأن من شأنها أن يتسامح معها في شئون كثيرة ، وكل تساهل وتسامح مع المشرك أو المشركة محظور محذور الشر بما يخشى منه أن يسري شيء من عقائد الشرك للمؤمن أو المؤمنة بضروب الشبه والتضليل التي جرى عليها المشركون ، كقولهم فيمن يتخذونهم وسطاء بينهم وبين الخالق : (
هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ( 10 : 18 ) وقولهم : (
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) ( 39 : 3 ) فهذه الشبهة هي التي فتن بها أكثر البشر ، ولم يسلم منها أهل شريعة سماوية خالطوا المشركين وعاشروهم ، فقد دخلوا في الشرك من حيث لا يشعرون; لأنهم
[ ص: 281 ] لم يتخذوا معبودات المشركين أنفسها شفعاء ووسطاء ، بل اتخذوا أنبياءهم ورؤساءهم ، وظنوا أن هذا تعظيم لهم لا ينافي التوحيد الذي أمروا به وجعل أصل دينهم ، وأساس ارتقاء أرواحهم وعقولهم ، وقد اغتروا بظواهر الألفاظ ، وجعلوا تسمية الشيء بغير اسمه إخراجا له عن حقيقته ، فهم قد عبدوا غير الله ولكنهم لم يسموا عملهم عبادة ، بل أطلقوا عليه لفظا آخر كالاستشفاع والتوسل ، واتخذوا غير الله إلها وربا ، ومنهم من لم يسمه بذلك ، بل سموه شفيعا ووسيلة ، وتوهموا أن اتخاذه إلها أو ربا هو تسميته بذلك ، أو اعتقادا أنه هو الخالق والرازق والمحيي والمميت استقلالا ، ولو رجعوا إلى عقائد الذين اتبعوا سننهم من المشركين لوجدوهم كما قال تعالى : (
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ( 10 : 18 ) مع قوله : (
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) ( 43 : 87 ) فإذا كانت مساكنة المشركين ومعاشرتهم - مع الكراهة والنفور - قد أفسدت جميع الأديان السماوية الأولى ، فما بالك بتأثير اتخاذهم أزواجا ، وهو يدعو إلى كمال السكون إليهم والمودة لهم والرحمة بهم ؟ ألا يكون ذلك دعوة إلى النار ، وسببا للشقاء والبوار ؟
هذه دعوة الزوج المشرك بطبيعة دينه (
والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ) بما اشتمل عليه دينه الذي أرسل به رسله من التوحيد الخالص الذي ينقذ العقول من أوهام الوثنية ومنها إعطاء بعض المخلوقين شعبا من خصائص الألوهية ، وبإفراد الله سبحانه بالعبادة والسلطة الغيبية ، وهذا هو السبب الأول في دخول الجنة واستحقاق المغفرة منه تعالى للمؤمن الموحد إذا ألم بمعصية أو كسب خطيئة; لأن خطيئته لا تحيط بروحه ولا ترين على قلبه فتجعله شريرا; لأن الله غالب على أمره (
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) ( 7 : 201 ) فحاصل معنى (
والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ) هو أن دعوة الله التي عليها المؤمنون هي الموصلة إلى الجنة والمغفرة بإذن الله وإرادته وهدايته وتوفيقه ، فهي مناقضة لدعوة المشركين وهي ما هم عليه من الشرك الموصل إلى النار بسوء اختيار أصحابه له ، ففيه المقابلة بين المشركين والمؤمنين وهي أنهما على غاية التباين ، وفيه أن ما عليه المشركون هو من سوء اختيارهم وقبح تصرفهم في كسبهم ، وأن ما عليه المؤمنون لم يكن بوضعهم وعملهم ، وإنما هو الدين الذي هو وضع الله بلغه عنه رسله بإذنه ، وهدى إليه خلقه .
وذكر الأستاذ الإمام وجها آخر في هذا ؛ وهو أن المراد باسم الجلالة ( ( الله ) ) هو ما يعتقده فيه - سبحانه - المؤمنون به من كونه واحدا أحدا صمدا لا كفء له ولا مساعد ولا وزير ، ولا واسطة بينه وبين خلقه يحمله على نفعهم أو ضرهم ، وإنما هو فاعل بإرادته القديمة على حسب علمه القديم ، ولا تأثير للحوادث فيهما ولا في غيرهما من صفاته تعالى; فهذا الاعتقاد
[ ص: 282 ] بالله هو الأصل الذي يدعوهم إلى الجنة; لأنه ينبوع الأعمال الحسنة النافعة ، ومصدر الأخلاق الفاضلة التي يستحق صاحبها الجنة على ما يحسن فيه ، والمغفرة على ما أساء فيه ومنعه إيمانه من الإصرار عليه والاسترسال فيه حتى يحيط به ، وإنما كان أصلا في ذلك; لأنه متى صح إيمانه صحت عزيمته في اتباع الشريعة والاهتداء بالدين القويم ، وهذا التعبير مأنوس به في اللغة ، يعبر بالشيء عن المصرف له والغالب على أمره ، على حد الحديث القدسي ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918770ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ) ) إلخ ، وذلك أن اعتقاده يملك شعوره ومشاعره فيكون أصل كل عمل نفسي وبدني فيه .
وقد يقال : إن هذه العلة في تحريم مناكحة المشركين متحققة في نكاح الكتابيات ، فالكتابية تدعو بسيرتها وعملها وقولها إلى ما هي عليه من العقيدة الفاسدة ، وما يتبعها من الأعمال التي لم تكن من أصل دينها الصحيح المتفق مع الإسلام ، فهي إن وافقت زوجها المسلم فيما هو إيمان صحيح كالإيمان بالله والإيمان بالأنبياء وباليوم الآخر في الجملة ، فهي تخالفه بما تصف به الله أو تتخذ له من الأبناء والأنداد ، وذلك من الدعوة إلى النار ، وقد تغلب المرأة على أمر زوجها أو ولدها فتقوده إلى دعوتها ، ولهذا ذهب بعض الشيعة إلى تحريم نكاح الكتابية .
ونقول في الجواب : لو اتحدت العلة لما صرح الكتاب بجواز الزواج بالكتابية المحصنة ، ولما اتفق سلف الأمة وخلفها على ذلك ما عدا هذه الشرذمة من الشيعة ، وكيف يستوي الفريقان - أهل الكتاب والمشركون - وقد فرق الكتاب والسنة بينهما في كثير من المزايا والأحكام ، ولم يجمع القرآن بين المشركين والمؤمنين في حكم كما جمع بين المؤمنين وأهل الكتاب في مثل قوله في سورة البقرة : (
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( 2 : 62 ) وقوله في سورة آل عمران : (
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) ( 3 : 64 ) الآية ، وقوله في البقرة ومثله في آل عمران : (
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) ( 2 : 136 ) وقوله فيها : (
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ) ( 2 : 139 ) وقوله في : (
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) ( 29 : 46 ) وأمثال هذه الآيات كثير جدا ، وهي تصرح بأن إله المسلمين وأهل الكتاب واحد ، وربهم واحد ، والذي أنزل عليهم هو شيء واحد; أي : في جوهره ، والمراد منه وهو الإيمان بالله وتوحيده والبعث والعمل
[ ص: 283 ] الصالح ، ولكنها في أواخرها تبين محل الدعوة والفرق ، وهو أننا مسلمون مخلصون وأنه طرأ عليهم الانحراف فاتخذوا من أنفسهم أربابا يحلون ويحرمون ، ويشرعون لهم ما لم يأذن به الله ، وأنهم غير مخلصين ولا مسلمين في أعمالهم; وهذا شيء لا ينكره أهل العلم الحقيقي والتاريخ منهم ، بل يقولون : لولا الانحراف والشرائع التي زادوها وسموها بالطقوس وبأسماء أخرى لما ضعفت أخلاقهم ، ومرضت قلوبهم وانحلت جامعتهم ، حتى كان من أمر الإسلام فيهم ما كان . وقد طرأ شيء من ذلك على من اتبعوا سننهم منا شبرا بشبر وذراعا بذراع ، مع أن أصل الدين عندنا قد حفظ بعناية لم يكن لهم مثلها ، وصرنا في حاجة إلى من يدعونا إلى إقامة الأصل كما دعاهم داعي الإسلام ، لا فرق في ذلك إلا أن الأصل الذي يجب أن يدعى إليه الجميع موجود محفوظ كما هو لا ينقص الجميع إلا إقامته والعمل به ، وهو القرآن الذي اتخذه المسلمون في عصرنا آلة لهو وسلعة تجارة ، ولكنهم لا يدعون إلى إقامته والعمل به ، بل منهم من يصرح بتحريم العمل به ويسمي ذلك اجتهادا، والاجتهاد عندهم ممنوع ، فقد منعوا القرآن بشبهة سخيفة وهي منع العلم الاستدلالي ، ومنعه منع لحقيقة الإسلام وانصراف عن ينبوعه ، وتفضيل أخذ عقائد الإسلام من كتب الكلام المبتدعة على أخذها من كتاب الله المعصوم ، وتفضيل أخذ أحكامه حتى التعبدية من كتب الفقهاء على أخذها منه ومن سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويبقى ما في الكتاب والسنة من الآداب والفضائل ، والحكم والمواعظ ، والسياسة العليا وسنن الاجتماع المثلى مما لا يوجد في كتبهم ، وقد استغنوا عنها بالتبع لاستغنائهم عن غيرها كأنه لم يبق لهم أدنى حاجة في علوم القرآن ومعارفه والعياذ بالله من الخذلان !
فإذا كان الفرق بيننا وبين أهل الكتاب يشبه الفرق بين الموحدين المخلصين العاملين بالكتاب والسنة وبين المبتدعة الذين انحرفوا عن هذين الثقلين اللذين تركهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا ، وأخبرنا أننا لا نضل ما تمسكنا بهما - كما في حديث الموطأ - فكيف يكون أهل الكتاب كالمشركين في حكم الله تعالى ؟
والجملة أن ما عليه الكتابية من الباطل هو مخالف لأصل دينها ، وقد عرض لها ولقومها بشبهة ضعيفة يسهل على المؤمن العالم بالحق أن يكشف لها عن وجه الحق في شبهتها ويرجعها إلى الصواب ، ويعسر عليها هي أن تنتصر بالشبهة على الحجة وتزيل السنة الأولى بما عرض من الشبهة ، وأما ما نراه من التباين بين المسلمين وأهل الكتاب الآن فسببه سياسة الملوك والرؤساء ، ولو أقمنا الكتاب وأقاموه لتقاربنا ورجعنا جميعا إلى الأصل الذي أرشدنا إليه القرآن العزيز . ولا يخفى أن هذا الأمر يختلف باختلاف الأشخاص ، فرب مسلم مقلد يتزوج بكتابية عالمة ، فتفسد عليه تقاليده ولا عوض له عنها، فينبغي أن يعرف هذا .
[ ص: 284 ] هذا ما كتبته عند طبع التفسير للمرة الأولى ، وقد حدث بعد ذلك أن فتن كثير من الشبان المصريين بنساء الإفرنج فتزوجوا بهن فأفسدن عليهم أمورهم الدينية والوطنية ، واضطر بعضهم إلى الطلاق ، وغرم كثيرا من المال ، ومنهم رجل غني قتلته امرأته الفرنسية وجاءت تطالب بميراثها منه ، وقليل منهم من اهتدت به زوجته وأسلمت ، وقد سرت العدوى إلى المسلمات ، فمن الغنيات منهن من تزوجن بمن عشقن من رجال الإفرنج بدون مبالاة بالدين الذي لا تعرف منه غير اللقب الوراثي ، وقد عظمت الفتنة، وقى الله البلاد شرها، ولن يكون إلا بتجديد التربية الإسلامية وإصلاح الحكومة .
ثم قال تعالى : (
ويبين آياته للناس ) أي : يوضح الدلائل على أحكام شريعته للناس ، فلا يذكر لهم حكما إلا ويبين لهم حكمته وفائدته بما يظهر لهم به أن المصلحة والسعادة فيما شرعه لهم (
لعلهم يتذكرون ) يتعظون فيستقيمون; فإن الحكم إذا لم تعرف فائدته للعامل لا يلبث أن يمل العمل به فيتركه وينساه ، وإذا عرف علته ودليله وانطباقه على مصلحته ومصلحة من يعيش معهم فأجدر به أن يحفظه ويقيمه على وجهه ويستقيم عليه ، لا يكتفى بالعمل بصورته وإن لم تؤد إلى المراد منه . ومن هنا قال الفقهاء : إن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما ، وإن ما يشارك المنصوص في العلة يعطى حكمه ، وليتنا عملنا بهذه القواعد ولم نرجع إلى التمسك بالظواهر من غير عقل ، ويا ليتها ظواهر الكتاب والسنة ، إن هي إلا ظواهر أقوال أقوام من المؤلفين ، منهم المعروف تاريخه ومنهم المجهول أمره ، وإلى الله المشتكى ، فاللهم ذكرنا ما نسينا ، واهدنا إلى الاعتبار بكتابك والعمل به; لنكون من المفلحين .