بعد أن فرض الله سبحانه الإحسان على من اختار التسريح حرم عليهم أخذ شيء من المرأة فقال : (
ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) ويدخل في ذلك المهر وغيره مما يعطيه الرجل امرأته على سبيل التمليك ، بل يجب أن يمتعها بشيء من ماله زائدا على ذلك (
فمتعوهن وسرحوهن ) ( 33 : 49 ) .
قال الأستاذ الإمام ( رضي الله عنه ) : إن أخذ الرجل شيئا من مال مطلقته مناف للإحسان فالأمر بالإحسان يستلزمه ، وإنما صرح به لمزيد رأفته سبحانه بالنساء ، وتأكيده تحذير الرجال الأقوياء من ظلمهن حقوقهن ، وقد كرر هذا النهي ، ومنه قوله في سورة النساء : (
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا مه شيئا ) ( 4 : 20 ) إلخ ، الآيتين ، ومحل هذا الحكم إذا كان الزوج هو الذي اختار فراق المرأة ورغب عنها ، وأما إذا كانت هي الراغبة عنه الطالبة لفراقه ، وخيف أن تتوسل إليه بالنشوز وسوء العشرة لكراهتها إياه أو لسوء خلقها ، لا لمضارته لها; فلا جناح عليهما حينئذ فيما يأخذه منها لإطلاق سراحها ، إذ لا يكلف خسارة امرأته وماله بغير ذنب منه; ولذلك قال تعالى : (
إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ) التي حدها للزوجين من حسن المعاشرة والمماثلة في الحقوق مع ولاية الرجل ، والتعاون على القيام بأمر المنزل وتربية الأولاد وعدم المضارة لقوله : (
ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ) ( 65 : 6 ) وغير ذلك ، وذلك بأن تخاف المرأة أن تعصي
[ ص: 308 ] الله في أمر زوجها فتكفره أو تخونه ، ويخاف هو أن يخرج عن الحد المشروع في مؤاخذة الناشز ، ويخافا معا سوء العشرة (
فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) الجناح : الإثم ، أي لا جناح عليها فيما تعطيه إياه ليخلعها; لأن طلبها الطلاق إنما يحظر لغير هذا العذر ، ولا جناح عليه فيما يأخذ لأجل ذلك; لأنه برضاها واختيارها من غير إكراه منه ولا مضارة ، والخوف هنا على ظاهره وهو توقع المكروه ، وفسره بعضهم بالظن وبعضهم بالعلم ، وتوقع الشيء لا يكون إلا بوجود ما يدل عليه ، فإن كان الدليل قطعيا فهو من العلم وإلا فهو من الظن ، وقد جعل بعض المفسرين الخطاب الأول للأزواج والثاني للحكام ، وجعل بعضهم الخطاب للحكام أولا وآخرا لتناسق النظم بتناسق الضمائر .
ويقول الأستاذ الإمام : إن الخطاب في مثل هذا للأمة; لأنها متكافلة في المصالح العامة ، وأولو الأمر هم المطالبون أولا وبالذات بالقيام بالمصالح ، والحكام منهم وسائر الناس رقباء عليهم . وقرأ
حمزة ويعقوب ( يخافا ) بضم الياء; أي : يتوقع الناس منهما ذلك لظهور أماراته وآياته .
وظاهر الآية أنه لا فرق في الخوف من عدم إقامة حدود الله بين أن يكون مثاره الرجل أو المرأة ، وخصه بعض المفسرين بما إذا كان المانع من إقامتها من جانب المرأة ، واختاره الأستاذ الإمام على ما تقدم آنفا ، وهذا هو الذي يتفق مع عدل الإسلام ويدل عليه السياق ، إذ جعل هذا استثناء من تحريم أخذ الرجل المطلق شيئا ما مما أعطاه امرأته .
وينجلي هذا بعرض حالات الزوجين الثلاث على العقل والعدل : فهما إن أقاما حدود الله تعالى بحسن المعاشرة وأداء كل منهما حق الآخر إلا ما كان من شذوذ يتسامح فيه عادة فلا خوف ولا فراق ، وإن عرض لها ما يمنع إقامتها فلا بد أن يكون العارض المانع من قبل أحدهما أو كليهما ، فإن كان من قبل الرجل بأن أبغض المرأة أو فتن بغيرها وأحب فراقها لغير ذنب منها أوجب ذلك وخاف ألا يعاملها بما يجب من المعروف ، وأن تقابله بمثل ذلك فله أن يسرحها بإحسان; لأن عقدة الزوجية بيده ، وليس له أن يأخذه في هذه الحالة مما كان أعطاها شيئا بالنص ، وهو (
وإن أردتم استبدال زوج ) الآية ، فإن التحريم فيها مبني على ما إذا كان الرجل هو الذي أراد الطلاق .
وإن كان المانع من قبلها كأن أبغضته بغضا لا تستطيع الصبر عليه والقيام معه بحقوق الزوجية ، وخافت أن تقع في النشوز ، ويسرف هو في العقوبة ، فمن العدل أن تعطيه ما كانت أخذت منه باسم الزوجية ليحل عقدتها ، فلا يخسر ماله وزوجته معا . عملا بالرخصة في الآية ، إذ تعين حمله عليها ، ونفي الجناح عنهما في هذه الحالة ظاهر في الرجل ، وجعله بعضهم بمعنى المفرد لخفائه عليهم في جانب المرأة ، وما هو بخفي ، فإن المرأة يذم منها شرعا
[ ص: 309 ] وعرفا أن تطلب الطلاق ، وقد رفع عنها الجناح فيه بهذا العذر ، وهو علمها بتعذر إقامة حدود الله في الزوجية .
وقد يقال : إن هناك حالة ثانية وهي أن يكره كل منهما الآخر ويود فراقه . ويقول : إن المطلوب في هذه الحال الصبر لقوله تعالى : (
فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) ( 4 : 19 ) فإن صبر أحدهما دون الآخر جاء الوجهان السابقان ، وإن اتفقا على الفراق خوفا من الشقاق ، ورضيت المرأة بأن تعطيه شيئا صدق عليها أنها هي الطالبة للفسخ .
وجملة القول أنه لا يجوز للرجل أن يأخذ منها شيئا إلا برضاها واختيارها من غير إيذاء منه ولا مضارة ، ويدل على هذا ما ورد في نزول الآية .
أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918784أن جميلة بنت عبد الله ابن سلول امرأة nindex.php?page=showalam&ids=215ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله nindex.php?page=showalam&ids=215ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكني لا أطيقه بغضا ، وأكره الكفر في الإسلام ( أي : كفر نعمة العشير وخيانته ) قال : أتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم ، قال : أقبل الحديقة ، وطلقها تطليقة ) ) ولفظ
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه ( ( فأمره أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد ) ) وذكر
السيوطي في أسباب النزول من رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج أن قوله : (
ولا يحل لكم أن تأخذوا ) إلخ ، نزل في ذلك . وقد زعم بعض العلماء أن هذه الآية منسوخة بآية النساء التي لا استثناء فيها ، ولا دليل على ذلك ، والجمهور على خلافه .
وهذا الفراق المبني على الافتداء يسمى
الخلع . وقد اختلف فيه العلماء : هل هو طلاق أم فسخ ؟ ولكل مذهب أدلة ليس التفسير بمحل لها ، ويترتب على هذا الاختلاف في عده من الطلقات الثلاث أم لا ، وفي
عدة المختلعة . فالجمهور على أنها كعدة المطلقة ، وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عند
أبي داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي والحاكم ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918785أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر امرأة nindex.php?page=showalam&ids=215ثابت بن قيس أن تعتد بحيضة ) ) مثله حديث
nindex.php?page=showalam&ids=10718الربيع بنت معوذ عند
الترمذي .
ثم ختم الآية بوعيد من يخالف هذه الأحكام فقال : (
تلك حدود الله فلا تعتدوها ) أي : هذه الأوامر والنواهي هي حدود الله للمعاملة الزوجية فلا تتجاوزوها بالمخالفة (
ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) الذين صار الظلم وصفا لازما لهم متمكنا من أنفسهم دون الملتزمين لها ، والظلم آفة العمران ومهلك الأمم ، وإن ظلم الأزواج للأزواج أعرق في الإفساد ، وأعجل في الإهلاك من ظلم الأمير للرعية ; لأن رابطة الزوجية أمتن الروابط وأحكمها فتلافي الفطرة ، فإذا فسدت الفطرة فسادا انتكث به هذا القتل ، وانقطع هذا
[ ص: 310 ] الحبل ، فأي رجاء في الأمة من بعده يمنع عنها غضب الله وسخطه ؟ ثم إن هذا الظلم ظلم للنفس يؤدي إلى الشقاء في الآخرة ، كما أنه مشق بطبيعته في الدنيا ، وقد بلغ التراخي والانفصام في رابطة الزوجية لعهدنا هذا مبلغا لم يعهد في عصر من العصور الإسلامية ، فأسرف الرجال في الطلاق ، وكثر نشوز النساء وافتداؤهن من الرجال بالخلع ، لفساد الفطرة في الزوجين ، واعتداء حدود الله من الجانبين ، وقد ورد في كراهة الطلاق في الشرع ما هو مشهور وورد مثله أيضا في طلب المرأة له كحديث
nindex.php?page=showalam&ids=99ثوبان عند
أحمد وأبي داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير والحاكم والبيهقي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918786أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ) )
فطلب الطلاق والخلع محظور في غير حال الضرورة المنصوصة في الآية ، ولكنه يقع ، قال
البيضاوي : والجمهور استكرهوه ولكن نفذوه .