ثم قال تعالى : (
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ) قال (
الجلال ) : كرره ليعم الممسوسة أيضا إذ الآية السابقة في غيرها . وقد أنكر عليه الأستاذ الإمام - كعادته - القول بالتكرار ، قال : كأن ما تقدم خاص وما هنا عام ، والصواب أن كل آية من الآيات التي وردت في المطلقات وردت في نوع منهن ، فتقدم حكم من لم تمس وقد فرض لها ، وحكم المدخول بها المفروض لها ، وبقي حكم غيرهما ( وفي المذكرة المأخوذة في درسه : وبقي حكم الممسوسة سواء فرض لها أم لا ) فذكره هنا ، ولم يذكر ذلك بالترتيب; لأن القرآن ليس كتابا فنيا فيكون لكل مقصد من مقاصده باب خاص به ، وإنما هو كتاب هداية ووعظ ينتقل بالإنسان من شأن من شئونه إلى آخر ، ويعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة ، مع التفنن في العبارة ، والتنويع في البيان ، حتى لا يمل تاليه وسامعه من المواظبة على الاهتداء ، يوجز أحيانا بما يعجز كل أحد عن الإتيان بمثله إذا كان المقام يقتضي الإيجاز ، ويطنب في مقام آخر حيث ينبغي الإطناب ، وهو معجز في إطنابه كإيجازه ، لا لغو فيه ولا حشو ، ولكل مقام فيه مقال ينطبق على الحكمة ، ويعين على التدبر والتذكر .
أقول : إن المطلقات أربع .
( 1 ) مطلقة مدخول بها قد فرض لها مهر فلها كل المفروض ، وعدتها ثلاثة قروء، وفيها قوله تعالى :
( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) ( 2 : 229 ) الآية ، وتقدم تفسيرها وفي معناها قوله تعالى في سورة النساء : (
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) ( 4 : 20 ) .
( 2 ) ومطلقة غير مدخول بها ولا مفروض لها ، فيجب لها المتعة بحسب إيسار المطلق ولا مهر لها ، وفيها قوله تعالى : (
لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ) ( 2 : 236 ) الآية ، وقد سبق تفسيرها، ولا عدة عليها لآية الأحزاب التي ذكرناها في تفسيرها استشهادا .
( 3 ) ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها فلها نصف المهر المفروض، وفيها قوله : (
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) ( 2 : 237 ) وتقدم تفسيرها ولا عدة عليها أيضا .
[ ص: 358 ] ( 4 ) ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها ، قالوا : ولها مهر مثلها بلا خلاف ، وذكر بعضهم أن قوله تعالى في سورة النساء : (
فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ) ( 4 : 24 ) معناه : فأعطوهن مهورهن بالفرض والتقدير إذا كان غير مسمى; أي : والعمدة في التقدير مساواتها بأمثالها على الأقل . ولم يأمرنا تعالى بالتمتيع عند ذكر نوع من المطلقات إلا غير الممسوسات مطلقا كما في آية الأحزاب، أو مقيدا بقوله : (
أو تفرضوا لهن فريضة ) ( 2 : 236 ) كما تقدم في الآية المشار إليها آنفا .
ثم ختم الله تعالى هذه الأحكام المسرودة هنا بقوله : (
وللمطلقات متاع ) إلخ ، فزعم بعضهم أن المراد المطلقات المعهودات اللواتي سبق الأمر بتمتيعهن ، واستدلوا بما رواه ابن جرير ، عن
ابن زيد قال : لما نزلت (
ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ) ( 2 : 236 ) قال رجل : إن أحسنت فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل; فأنزل الله هذه الآية . وفسروا المتقين بمتقي الكفر ، وليست هذه الرواية مما يحتج به ، وقد قدمنا أن ذكر المحسنين هناك لا يدل على التخيير . وقال بعضهم : إن هذا حكم عام فتجب المتعة لكل مطلقة ، ولا تكرار على هذا مع الآية الآمرة بتمتيع من لم تمس ولم يفرض لها; لأن هذه الآية مسوقة لحكم هذه المتعة من غير تخصيص ولا تقييد بكونها تختلف باختلاف حال الرجل في الإيسار ، وتلك سيقت لبيان نفي الجناح عمن طلق من لم يمسها ولم يفرض لها ، وجاء في السياق أنه يجب لها تمتيع حسن بحسب وسع المطلق لما تقدم بيانه في تفسيرها ، فعلى هذا تكون
المتعة مشروعة لكل مطلقة ، وروي هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر ،
وعطاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=11867وجابر بن زيد ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ،
وأبي العالية ،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن البصري ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في أحد قوليه
وأحمد ،
وإسحاق ، واستدلوا بعموم هذه الآية وبقوله تعالى في سورة الأحزاب : (
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ) ( 33 : 28 ) وقد كن مدخولا بهن مفروضا لهن المهر .
والقائلون بهذا منهم من يقول : إنها واجبة لكل مطلقة ، ومنهم من يقول : واجبة لمن لم تمس ولم يفرض لها مندوبة لغيرها ، وحجة من قال : إن التمتيع خاص بمن لم تمس ولم يفرض لها هي أنه بدل مما يجب لغيرها من نصف المهر إن فرض لها ولم تمس ، أو المهر المسمى، أو مهر المثل إذا كانت ممسوسة ، وحسبنا أن الله تعالى جعل تمتيع المطلقات حقا على المتقين ، وقد فسروه بالذين يتقون الشرك ، أو هو حق على كل مؤمن مطلقا، إلا أن يثبت أن ما تستحقه من المهر يسمى متاعا في عرف القرآن ، فحينئذ تكون هذه الآية فذلكة لسائر الآيات ، كأنه قال : لكل مطلقة متاع تمتع به ، فمنهن من متاعها المهر المسمى أو المقدر ، ومنهن من متاعها نصفه ، ومنهن من لها متاع غير محدود; لأنه على حسب الاستطاعة . وأحوط الأقوال وأوسطها قول من جعل المتعة غير المهر وأوجبها لمن لا تستحق مهرا وندبها لغيرها .
[ ص: 359 ] ثم ختم الله تعالى هذه الأحكام بقوله : (
كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ) أي : مضت سنته تعالى بأن يبين لكم آياته في أحكام دينه مثل هذا النحو من البيان ، وهو أن يذكر الحكم وفائدته ويقرنه بذكر الله والموعظة الحسنة التي تعين على العمل به ، ليعدكم بذلك لكمال العقل فتتحروا الاستفادة من كل عمل ، فعليكم أن تعقلوا ما تخاطبون به لتكونوا على بصيرة من دينكم ، عارفين بانطباق أحكامه على مصالحكم بما فيها من تزكية نفوسكم والتأليف بين قلوبكم ، فتكونوا حقيقين بإقامتها والمحافظة عليها . قال الأستاذ الإمام : ليس معنى العقل أن يجعل المعنى في حاشية من حواشي الدماغ ، غير مستقر في الذهن ، ولا مؤثر في النفس ، بل معناه أن يتدبر الشيء ويتأمله حتى تذعن نفسه لما أودعت فيه إذعانا يكون له أثر في العمل ، فمن لم يعقل الكلام بهذا المعنى فهو ميت وإن كان يزعم أنه حي - ميت من عالم العقلاء حي بالحياة الحيوانية - وقد فهمنا هذه الأحكام ولكن ما عقلناها ، ولو عقلناها لما أهملناها .
وأقول : أين هذه الطريقة المثلى في بيان الأحكام من طريقة الكتب المعروفة عندنا بكتب الفقه ، وهي غفل في الغالب من بيان فائدة الأحكام وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان ومزجها بالوعظ والتذكير ؟ وأين أهل التقليد من هدي القرآن ؟ هو يذكر لنا الأحكام بأسلوب يعدنا للعقل ، ويجعلنا من أهل البصيرة وينهانا عن التقليد الأعمى ، وهم يأمروننا بأن نخر على كلامهم وكلام أمثالهم صما وعميانا ، ومن حاول منا الاهتداء بالكتاب العزيز وما بينه من السنة المتبعة أقاموا عليه النكير ، ولعله لا يسلم من التبديع والتكفير ، يزعمون أنهم بهذا يحافظون على الدين وما أضاع الدين إلا هذا ، فإن بقينا على هذه التقاليد لا يبقى على هذا الدين أحد ، فإننا نرى الناس يتسللون منه لواذا ، وإذا رجعنا إلى العقل الذي هدانا الله تعالى إليه في هذه الآية وأمثالها ، رجي لنا أن نحيي ديننا فيكون دين العقل هو مرجع الأمم أجمعين ، وهذا ما وعدنا الله تعالى به (
ولتعلمن نبأه بعد حين ) ( 38 : 88 ) .