قال تعالى : (
ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى ) تقدم الكلام على هذا الضرب من الاستفهام في تفسير القصة السابقة لهذه ، والملأ : القوم يجتمعون للتشاور، لا واحد له، قاله البيضاوي وغيره ، وقال غيرهم : الملأ الأشراف من الناس وهو اسم للجماعة ، كالقوم والرهط والجيش ، وجمعه أملاء ، سموا ملأ لأنهم يملئون العيون رواء القلوب هيبة (
إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) وهذا النبي لم يسمه القرآن ، وقال (
الجلال ) : هو
شمويل ، وهذا أقوى أقوال المفسرين ، وهو معرب
صمويل ، أو
صموئيل ، وقيل : إنه
يوشع ، وهذا من الجهل بالتاريخ; فإن
يوشع هو فتى
موسى ، والقصة حدثت في زمن
داود والزمن بينهما بعيد ، وبعث الملك عبارة عن إقامته وتوليته عليهم (
قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ) قرأ
نافع وحده ( عسيتم ) بكسر السين وهي لغة غير مشهورة ، والباقون بفتحها وهي اللغة المشهورة ، والمعنى هل قاربتم أن تحجموا عن القتال إن كتب عليكم كما أتوقع - أو أتوقع منكم الجبن عن القتال إن هو كتب عليكم ؟ فعسى للمقاربة أو للتوقع (
قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا )
[ ص: 377 ] أي : أي داع لنا يدعونا إلى ألا نقاتل وقد وجد سبب القتال ، وهو إخراجنا من ديارنا بإجلاء العدو إيانا عنها ، وإفرادنا عن أولادنا بسبيه إياهم واستعباده لهم ؟ (
فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ) ذلك أن الأمم إذا قهرها العدو ونكل بها يفسد بأسها ، ويغلب عليهاالجبن والمهانة ، فإذا أراد الله تعالى إحياءها بعد موتها ينفخ روح الشجاعة والإقدام في خيارها - وهم الأقلون - فيعملون ما لا يعمل الأكثرون ، كما علمت من تفسير قوله تعالى : (
ثم أحياهم ) وما هو منك ببعيد ، ولم يكن هؤلاء القوم قد استعد منهم للحياة إلا القليل .
قال الأستاذ الإمام : وفي الآية من الفوائد الاجتماعية أن الأمم التي تفسد أخلاقها وتضعف ، قد تفكر في المدافعة عند الحاجة إليها وتعزم على القيام بها إذا توفرت شرائطها التي يتخيلونها على حد قول الشاعر :
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
ثم إذا توفرت الشروط يضعفون ويجبنون ، ويزعمون أنها غير كافية ليعذروا أنفسهم وما هم بمعذورين (
والله عليم بالظالمين ) الذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها وحفظا لحقها ، فهو يجزيهم وصفهم فيكونون في الدنيا أذلاء مستضعفين ، وفي الآخرة أشقياء معذبين .
أقول : وفي تاريخ أهل الكتاب ما يفيد أن
بني إسرائيل كانوا في الزمن الذي بعث فيه
صموئيل نبيا ملهما قد انحرفوا عن شريعة
موسى ونسوها ، فعبدوا من دون الله آلهة أخرى ، فضعفت رابطتهم الملية ، وسلط الله عليهم الفلسطينيين فحاربوهم حتى أثخنوهم فانكسروا ، وسقط منهم ثلاثون ألف مقاتل ، وأخذوا تابوت عهد الرب منهم ، وكان
بنو إسرائيل يستفتحون - أي : يستنصرون ويطلبون الفتح - به على أعدائهم ، فلما أخذه
أهل فلسطين انكسرت قلوب
بني إسرائيل ولم تنهض همتهم لاسترداده ، وكانوا إلى ذلك العهد لا ملوك لهم ، وإنما كان رؤساؤهم القضاة بالشريعة ، ومنهم الأنبياء ومنهم
صموئيل كان قاضيا ، فلما شاخ جعل بنيه قضاة وكان ولده البكر وولده الثاني من قضاة الجور وأكلة الرشوة ، فاجتمع كل شيوخ
بني إسرائيل - وهم المعبر عنهم في القرآن بالملأ - وطلبوا من
صموئيل أن يختار لهم ملكا يحكم فيهم كسائر الشعوب ، فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك واستعبادهم للأمم ، فألحوا فألهمه الله تعالى أن يختار لهم
طالوت ملكا ، واسمه عندهم
شاول فذلك قوله تعالى :
(
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال )
[ ص: 378 ] الظاهر أن
طالوت تعريب
لشاول - وإن كان بعيدا منه في اللفظ - وقيل : إنه لقب له من الطول ، كملكوت من الملك وأمثالها; وذلك أنه كان طويلا مشذبا ، ففي سفر
صموئيل الأول من العهد العتيق ( ( من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب ) ) وفيه ( ( فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق ) ) - واعترض بمنع صرفه .
وقال الأستاذ الإمام عند ذكر
طالوت : هو الذي يسمونه ( (
شاول ) ) وقد سماه الله
طالوت فهو
طالوت ، أي أننا لا نعبأ بما في كتبهم لما قدمنا ، وإذا علم القارئ أن القوم لا يعرفون كاتب سفري
صموئيل الأول والثاني من هو ، ولا في أي زمن كتبا ، فإنه يسهل عليه ألا يعتد بتسميتهم ، وأما استنكارهم جعله ملكا فقد صرحوا به وقالوا : إن منهم من احتقره ، ولكن أخبارهم لا تتصل بأسبابها ، ولا تقرن بعللها . وقال المفسرون في استنكارهم لملكه وزعمهم أنهم أحق بالملك منه : إنه كان من أولاد
بنيامين لا من بيت
يهوذا ، وهو بيت الملك ، ولا من بيت
لاوي ، وهو بيت النبوة ، وفهم بعضهم من قوله : (
ولم يؤت سعة من المال ) أنه كان فقيرا ، وقالوا : كان راعيا أو دباغا أو سقاء ، ولا يصح كلامهم في بيت الملك; لأنه لم يكن فيهم ملوك قبله ، ونفيهم سعة المال التي تؤهله للملك في رأي القائلين لا تدل على أنه كان فقيرا ، وإنما العبرة في العبارة هي ما دلت عليه من طباع الناس ، وهي أنهم يرون أن الملك لا بد أن يكون وارثا للملك ، أو ذا نسب عظيم يسهل على شرفاء الناس وعظمائهم الخضوع له ، وذا مال عظيم يدبر به الملك ، والسبب في هذا أنهم قد اعتادوا الخضوع للشرفاء والأغنياء ، وإن لم يمتازوا عليهم بمعارفهم وصفاتهم الذاتية ، فبين الله تعالى فيما حكاه عن نبيه في أولئك القوم أنهم مخطئون في زعمهم أن استحقاق الملك يكون بالنسب وسعة المال بقوله :
(
قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ) فسروا اصطفاء الله تعالى هنا بوحيه لذلك النبي أن يجعل
طالوت ملكا عليهم ، ولعله لو كان هذا هو المراد لقال : اصطفاه لكم كما قال : (
اصطفى لكم الدين ) ( 2 : 132 ) والمتبادر عندي أن معناه فضله واختاره عليكم بما أودع فيه من الاستعداد الفطري للملك ، ولا ينافي هذا كون اختياره كان بوحي من الله; لأن هذه الأمور هي بيان لأسباب الاختيار وهي أربعة : ( 1 ) الاستعداد الفطري ( 2 ) السعة في العلم الذي يكون به التدبير ( 3 ) بسطة الجسم
[ ص: 379 ] المعبر بها عن صحته وكمال قواه المستلزم ذلك لصحة الفكر على قاعدة ( ( العقل السليم في الجسم السليم ) ) وللشجاعة والقدرة على المدافعة وللهيبة والوقار ( 4 ) توفيق الله تعالى الأسباب له وهو ما يعبر عنه بقوله : (
والله يؤتي ملكه من يشاء والاستعداد هو الركن الأول في المرتبة فلذلك قدمه ، والعلم بحال الأمة ومواضع قوتها وضعفها وجودة الفكر في تدبير شئونها ، هو الركن الثاني في المرتبة ، فكم من عالم بحال زمانه غير مستعد للسلطة اتخذه من هو مستعد لها سراجا يستضيء برأيه في تأسيس مملكة أو سياستها ، ولم ينهض به رأيه إلى أن يكون هو السيد الزعيم فيها ، وكمال الجسم في قواه وروائه هو الركن الثالث في المرتبة ، وهو في الناس أكثر من سابقيه .
وأما المال فليس بركن من أركان تأسيس الملك; لأن المزايا الثلاث إذا وجدت سهل على صاحبها الإتيان بالمال ، وإنا لنعرف في الناس من أسس دولة وهو فقير أمي ، ولكن استعداده ومعرفته بحال الأمة التي سادها، وشجاعته كانت كافية للاستيلاء عليها والاستعانة بأهل العلم بالإدارة والشجعان على تمكين سلطته فيها ، وقد قدم الأركان الثلاثة على الرابع; لأنها تتعلق بمواهب الرجل الذي اختير ملكا فأنكر القوم اختياره فهي المقصودة بالجواب ، وأما توفيق الله تعالى بتسخير الأسباب التي لا عمل له فيها لسعيه فليس من مواهبه ومزاياه فتقدم في أسباب اختياره ، وإنما تذكر تتمة للفائدة وبيانا للحقيقة; ولذلك ذكرت قاعدة عامة لا وصفا له .
ولله در الشاعر العربي حيث قال في صفات الجدير بالاختيار لزعامة الأمة وقيادتها :
فقلدوا أمركم لله دركمو رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ولا إذا عض مكروه به خشعا
( ومنها ) وليس يشغله مال يثمره عنكم ، ولا ولد يبغي له الرفعا
وأقول : إن من الناس من يظن أن معنى إسناد الشيء إلى مشيئة الله تعالى هو أن الله تعالى يفعله بلا سبب ولا جريان على سنة من سننه في نظام خلقه ، وليس كذلك فإن كل شيء بمشيئة الله تعالى (
وكل شيء عنده بمقدار ) ( 13 : 8 ) أي : بنظام وتقدير موافق للحكمة ليس فيه جزاف ولا خلل ، فإيتاؤه الملك لمن يشاء بمقتضى سنته إنما يكون بجعله مستعدا للملك في نفسه ، وبتوفيق الأسباب لسعيه في ذلك; أي : هو بالجمع بين أمرين : أحدهما في نفس
[ ص: 380 ] الملك ، والآخر في حال الأمة التي يكون فيها ، وفي الأحاديث المشهورة على ألسنة العامة ( (
كما تكونون يولى عليكم ) ) قال في الدرر المنتثرة رواه
ابن جميع في معجمه من حديث
أبي بكرة ،
والبيهقي في الشعب من حديث
يونس بن إسحاق عن أبيه مرفوعا ثم قال : هذا منقطع . وفي كنز العمال أخرجه
الديلمي في مسند الفردوس عن
أبي بكرة والبيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11813أبي إسحاق السبيعي مرسلا .
نعم إذا أراد الله إسعاد أمة جعل ملكها مقويا لما فيها من الاستعداد للخير ، حتى يغلب خيرها على شرها، فتكون سعيدة ، وإذا أراد إهلاك أمة جعل ملكها مقويا لدواعي الشر فيها حتى يتغلب شرها على خيرها، فتكون شقية ذليلة ، فتعدوا عليها أمة قوية ، فلا تزال تنقصها من أطرافها ، وتفتات عليها في أمورها ، أو تناجزها الحرب حتى تزيل سلطانها من الأرض ، يريد الله تعالى ذلك فيكون بمقتضى سننه في نظام الاجتماع ، فهو يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء . بعدل وحكمة ، لا بظلم ولا عبث; ولذلك قال : (
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) ( 21 : 105 ) وقال : (
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) ( 7 : 128 ) فالمتقون في هذا المقام - مقام استعمار الأرض والسيادة في الممالك - هم الذين يتقون أسباب خراب البلاد وضعف الأمم ، وهي الظلم في الحكام، والجهل وفساد الأخلاق في الدولة والأمة ، وما يتبع ذلك من التفرق والتنازع والتخاذل ، والصالحون في هذا المقام هم الذين يصلحون لاستعمار الأرض وسياسة الأمم بحسب استعدادها الاجتماعي .
أطلت في بيان معنى مشيئة الله تعالى في إتيان الملك ; لأنني أرى عامة المسلمين يفهمون من مثل عبارة الآية في إيجازها أن الملك يكون للملوك بقوة إلهية هي وراء الأسباب والسنن التي يجري عليها البشر في أعمالهم الكسبية ، وهذا الاعتقاد قديم في الأمم الوثنية ، وفي معناه عبارة في كتب النصرانية ، وبه استعبد الملوك الناس الذين يظنون أن سلطتهم شعبة من السلطة الإلهية ، وأن محاولة مقاومتهم هي كمحاولة مقاومة الباري سبحانه وتعالى والخروج عن مشيئته .
وكان الأستاذ الإمام أوجز في الدرس بتفسير قوله تعالى : (
والله يؤتي ملكه من يشاء ) إذ جاء في آخره ، وقد كتبت في مذكرتي عنه ( ( أي : أنه سنة في تهيئة من يشاء للملك ) ) ومثل هذا الإجمال لا يعقله إلا من جمع بين الآيات الكثيرة في إرث الأرض وفي هلاك الأمم وتكونها ، والآيات الواردة في أن له تعالى في البشر سننا لا تتبدل ولا تتحول وقد ذكرنا بعضها ، ومنها قوله تعالى : (
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( 13 : 11 ) فحالة الأمم في صفات أنفسها - وهي عقائدها ومعارفها وأخلاقها وعاداتها - هي الأصل
[ ص: 381 ] في تغير ما بها من سيادة أو عبودية وثروة أو فقر ، وقوة أو ضعف ، وهي هي التي تمكن الظالم من إهلاكها . والغرض من هذا البيان أن نعلم أنه لا يصح لنا الاعتذار بمشيئة الله عن التقصير في إصلاح شئوننا اتكالا على ملوكنا ; فإن مشيئته تعالى لا تتعلق بإبطال سنته تعالى وحكمته في نظام خلقه ، ولا دليل في الكتاب والسنة ولا في العقل ولا في الوجود على أن تصرف الملوك في الأمم هو بقوة إلهية خارقة للعادة ، بل شريعة الله تعالى وخليقته شاهدتان بضد ذلك (
فاعتبروا ياأولي الأبصار ) ( 59 : 2 ) .
ثم ختم الآية بقوله تعالى : (
والله واسع عليم ) على طريقة القرآن في التنبيه على الدليل بعد الحكم والتذكير بأسمائه الحسنى وآثارها; أي : واسع التصرف والقدرة ، إذا شاء أمرا اقتضته حكمته في نظام الخليقة فإنه يقع لا محالة ، عليم بوجوه الحكمة فلا يضع سننه في استحقاق الملك عبثا ، ولا يترك أمر العباد في اجتماعهم سدى ، بل وضع لهم من السنن الحكيمة ما هو منتهى الإبداع والإتقان ، وليس في الإمكان أبدع مما كان .
هذا وقد جرى المفسرون على أن وجوه الرد على منكري جعل طالوت ملكا أربعة ، وأحسن عبارة لهم على اختصارها عبارة
البيضاوي قال : لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك :
( أولا ) بأن العمدة فيه اصطفاء الله تعالى، وقد اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم .
( ثانيا ) بأن الشروط فيه ؛ وفور العلم ليتمكن من معرفة الأمور السياسية ، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب ، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم ، وقد زاده الله فيها ، وقد كان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه .
( ثالثا ) بأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء .
( رابعا ) بأنه ( واسع ) الفضل يوسع الفضل على الفقير ويغنيه ( عليم ) بمن يليق بالملك وغيره اهـ . فجعلوا الأول بمعنى الثالث وجعلوا مزية العقل ومزية البدن شيئا واحدا وهما شيئان ، وأجملوا القول في المشيئة حتى إن المتوهم ليتوهم أن ذلك يكون بعناية غيبية لا بسنة إلهية ، وجعلوا كونه تعالى واسعا عليما وجها خاصا . ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام في الأول شيئا ، ورأيه في مشيئة الله تعالى هنا ما تقدم آنفا ، وقد فسر ( ( الواسع ) ) بواسع التصرف والقدرة ، وهو يتفق مع قولهم واسع الفضل ، وقال في تفسير ( عليم ) عليم بوجوه الاختيار ومن يستحق الملك .