وتأمل مع ما ذكرناك به من الآيات قوله - تعالى - :
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور فهذا القول يهدي إلى أن الإيمان وغيره من ضروب الهداية يكون بتوفيق الله - تعالى - من شاء ، وإعداده للنظر في الآيات والخروج من الشبهات بما ينقدح لنظره من نور الدليل لا بالإجبار والإكراه . فالآية بمثابة الدليل على منع الإكراه في الدين ، والتنبيه لأولئك الآباء الذين أرادوا إكراه أولادهم على ترك اليهودية والدخول في الإسلام ، على أن الولاية على العقول والقلوب هي لله - تعالى - وحده ، فإذا أعدتها سننه وعنايته لقبول الحق والرشاد كانت الدعوة المبينة كافية لجذبها إلى نور الهداية وإلا فقد تودع منها لإحاطة الظلمات بها .
وقال الأستاذ الإمام : ذهب كثير من المفسرين في معنى الآية إلى أن الله - تعالى - هو متولي أمور المؤمنين يوفقهم إلى الخروج من الظلمات ، ويمدهم في الهداية بمحض القدرة ، كما أن الطاغوت يمدون الكافرين في الغواية ، ويخرجونهم بالإغواء من نور الحق إلى ظلمات الضلالة . وهذا تفسير العوام الذين لا يفهمون أساليب اللغة العالية ، أو تفسير الأعاجم الذين هم أجدر بعدم الفهم ، ومعنى الآية الذي يلتئم مع معنى سابقتها ظاهر أتم الظهور وهو أن المؤمن لا ولي له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله - تعالى - ومتى كان كذلك فإنه يهتدي إلى استعمال الهدايات التي وهبها الله له على وجهها وهي الحواس والعقل والدين ، فهؤلاء المؤمنون كلما عرضت لهم شبهة لاح لهم بسلطان الولاية الإلهية على قلوبهم شعاع من نور الحق يطرد ظلمتها فيخرجون منها بسهولة
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [ 7 : 201 ] جولان الحواس في رياض الأكوان ، وإدراكها ما فيها من بديع الصنع والإتقان يعطيهم نورا ، ونظر العقل في فنون المعقولات يعطيهم نورا ، وما جاء به الدين من الآيات البينات يتم لهم نورهم
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أي لا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة السائقة إلى الطغيان ، فإذا كان الطاغوت من الأحياء الناطقة ورأى أن عابديه قد لاح لهم شعاع من نور الحق الذي ينبههم إلى فساد ما هم فيه بادر إلى إطفائه ، بل إلى صرفهم عنه بما يلقيه دونه من حجب الشبهات وأستار زخارف الأقوال التي تقبل منه لأجل الاعتقاد أو بنفس الاعتقاد ، وإذا كان الطاغوت من غير الأحياء فإن سدنة هيكله وزعماء حزبه لا يقتصرون في تنميق هذه الشبهات ، وتزيين تلك الشهوات ، أقول : بل هؤلاء الزعماء يعدون من الطاغوت كما علم من تفسيره ، فإنهم دعاة الطغيان وأولياؤه ، فإن لم يكونوا ممن تعتقد فيهم السلطة الغيبية وتوله العقول
[ ص: 35 ] في مزاياهم الإلهية فإنهم ممن يؤخذ بقولهم في الاعتقاد بتلك السلطة والمزايا وما ينبغي لمظاهرها أو لأربابها من التعظيم الذي هو عين العبادة وإن سمي توسلا أو استشفاعا أو غير ذلك . ثم قال الأستاذ : الظلمات هي الضلالات التي تعرض على الإنسان في كل طور من أطوار حياته كالكفر والشبهات التي تعرض دون الدين ، فتصد عن النظر الصحيح فيه أو تحول دون فهمه والإذعان له ، وكالبدع والأهواء التي تحمل على تأويله وصرفه عن وجهه ، وكالشهوات والحظوظ التي تشغل عنه وتستحوذ على النفس حتى تقذفها في الكفر . أقول : ولهذه الظلمة شعبتان :
إحداهما : ما يخرج صاحبها من الإيمان ظاهرا وباطنا لأنه يرى ذلك وسيلة إلى التمتع بشهواته الحسية أو المعنوية كالسلطة والجاه .
والثانية : ما يسترسل صاحبها في الفواحش والمنكرات أو الظلم والطغيان حتى لا يبقى لنور الدين مكان من قبله ، وهؤلاء هم المشار إليهم بمثل قوله - تعالى - :
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ 83 : 14 ، 15 ] الآيات . وقال - رحمه الله تعالى - : لا توجد مرآة يرى فيها عبدة الطاغوت أنفسهم كما هي أجلى من القرآن : أي ولكنهم لا ينظرون فيه ، إما لأنهم استحبوا العمى وألفوه حتى لم يبق من أمل في شفاء بصائرهم وإما لأن طاغوتهم يحولون بينهم وبينه كما تقدم أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون لأن النار هي الدار التي تليق بأهل الظلمات الذين لم يبق لنور الحق والرشاد مكان في أنفسهم يصلها بدار النور والرضوان ، فما يكون عليه الإنسان في الآخرة هو عاقبة ما كانت عليه نفسه في الدنيا . وقد سبق القول بأن
الخوض في حقيقة تلك الدار التي سميت بالنار غير جائز ، وإنما يعتقد من مجموع النصوص أنها دار شقاء يعذب المرء فيها بما تقدم من عمله السيئ ، وقد يكون هذا العذاب بالبرد إذ ورد أن فيها الزمهرير . وأزيد الآن : أنه لا يبعد أن تكون شبيهة بالأرض من حيث إن فيها مواضع شديدة الحر كالأماكن التي في خط الاستواء ، ومواضع شديدة البرد كالقطبين إلا أنها أبعد من الأرض عن الاعتدال ، فحرها وبردها أشد ، ومصادرهما غير معروفة لنا . أعاذنا الله منها ومما يؤدي إليها من اعتقاد وقول وعمل بمنه وكرمه آمين .
هذا ، وإن في الآيتين من هدم التقليد ما لا يخفى على ذي البصيرة ، ولكن الأستاذ الإمام لم يتعرض له في الدرس بالنص ، بل قال كلاما يستلزم ذلك ويفهم منه ; ذلك أن الله - تعالى - جعل تبين الرشد وظهوره في كتابه هو الطريق إلى الدين ، فلو لم يكن بيان الكتاب كافيا في أن يتبين للمكلف ما هو مطالب به لما صح قوله :
قد تبين الرشد من الغي ولا تفويض الأمر بعد البيان إلى الناظر ، ولما عد البيان إعذارا له وإنظارا ، ولما التأم مع هذا قوله :
[ ص: 36 ] الله ولي الذين آمنوا إلخ فإن معنى هذه الآية أن أهل الإيمان هم الذين وكلوا إلى ولاية الله - تعالى - وحده ، فلم يكن للبشر سلطان على عقائدهم ولا تصرف في هدايتهم ، أي إنهم ظلوا على فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فنظروا في الدين بما غرز في فطرتهم من العقل والتمييز ، فتبين لهم الرشد فاتبعوه والغي فاجتنبوه ، والمقلد لم يتبين له شيء من ذلك ، وإنما هو تابع لاعتقاد غيره فلا تسلم له ولاية الفطرة السليمة التي تؤيدها العناية الإلهية العظيمة وأما أهل الكفر فلهم أولياء من الطاغوت يتصرفون في اعتقادهم وهم يقبلون تصرفهم ثقة بهم وتعظيما لشأنهم ، وهذا ليس بعذر عند الله - تعالى - بعد ما بين الرشد من الغي ، فتبين في نفسه حتى لا يمكن أن يخفى على من نظر فيه طالبا للحق من غير تعصب للأهواء ، ولا لتقاليد الآباء ، ويؤكد هذه المعاني قوله - تعالى - :
لا انفصام لها فإنه يفيد أن من تبين له هذا الرشد فإنه لا ينفك عنه ، والمقلد عرضة للترك والانفكاك ; لأنه لا يعرف قيمة ما هو فيه لذاته .
أقول : ومما يجب بيانه في تفسير هذه الآية أيضا الفرق بين ولاية الله للمؤمنين وولايتهم له وولاية بعضهم لبعض ، فإن الجاهلين لا يميزون بين الولايتين ، فيجعلون لبعض المؤمنين من الولاية ما هو لله - تعالى - وحده ، وذلك شرك في التوحيد خفي عند الجاهل ، جلي عند العارف ولا بد من تفصيل فيه .
هذه الآيات تثبت ولاية الله وحده للمؤمنين ، وفي معناها آيات تفيد الحصر كقوله - تعالى - في سورة الشورى :
أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي [ 42 : 9 ] الآية . وقوله فيها :
وهو الولي الحميد [ 42 :28 ] وثمة آيات كثيرة تنفي ولاية غيره - تعالى - كالآيات التي تقدمت في الكلام على الشفاعة ، وكقوله - تعالى - في سورة
هود بعد أمر النبي ومن معه بالاستقامة :
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون [ 11 : 113 ] وقوله له في سورة الأنعام :
قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين [ 6 : 14 ] وقوله :
إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين [ 7 : 196 ] وكذلك أمر سائر الأنبياء ألا يتخذوا وليا لهم غير الله - تعالى - ، أي وأن يعلموا أممهم ذلك قال - تعالى - حكاية عن
يوسف - عليه السلام - :
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة [ 12 : 101 ] الآية وقال :
وكفى بالله وليا [ 4 : 45 ] فهذه شواهد على ولاية الله وحده للمؤمنين ونهيهم عن اتخاذ ولي من دونه " وورد في ولايتهم له قوله في سورة يونس :
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 10 : 62 ، 63 ] وفي معناها قوله في سورة
[ ص: 37 ] الأنفال بعد ذكر المشركين :
وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 8 : 34 ] .
وقال - تعالى - في ولاية المؤمنين بعضهم لبعض :
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض [ 8 : 72 ] وقال :
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله [ 9 : 71 ] .
يقابل ولاية الله - تعالى - للمؤمنين وولايتهم له ، ولاية الشيطان والطاغوت للكافرين وولايتهم لهما كما ترى في الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، وقال تعالى :
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه [ 3 : 175 ] وقال :
فقاتلوا أولياء الشيطان [ 4 : 76 ] وقال :
إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 : 30 ] ويقابل ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ولاية الكافرين بعضهم لبعض ، كما قال :
والذين كفروا بعضهم أولياء بعض [ 8 : 73 ] وقال :
بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم [ 5 : 51 ] .
ومن تأمل هذه الآيات رأى معانيها ظاهرة جلية ، أما كونه - تعالى - هو الولي وحده لا ولي سواه ، فالمراد به أنه هو المتولي لأمور العباد في الواقع ونفس الأمر - كما تقدم - وذلك بما خلق لهم من المنافع ومن الأعضاء والقوى التي تمكنهم من الانتفاع بها ، بما بين لهم من السنن ومهد لهم من الأسباب ، وهذه هي الولايات العامة المطلقة ، وأما ولايته للمؤمنين خاصة فهي عبارة عن عنايته بهم وإلهامه وتوفيقه إياهم لما فيه الخير والصلاح الروحاني والجسماني ، بما اختاروا لأنفسهم من الإيمان به وبما جاءت به رسله ، وأما ولايتهم له - تعالى - فقد عبر عنها بالإيمان والتقوى ، فهم بالإيمان بولايته لهم يتولونه ، أي يعتقدون أنه هو المتولي لأمورهم وحده - كما تقدم - وهم في استفادتهم بقواهم من نافع الكون واتقائهم لمضاره يلاحظون أن هذا من فضله عليهم وتوليه لأمورهم ، إذ مكنهم من ذلك وهيأ أسبابه لهم ، وإذا ضعفت قواهم دون مطلب من مطالبهم أو جهلوا طريقه وسببه توجهوا إليه وحده مع تعاونهم وتناصرهم لا يتوجهون إلى غيره في استمداد العناية وطلب التوفيق والهداية كما تقدم آنفا ، ثم إنهم مع هذا الإيمان يتقونه - تعالى - بترك المعاصي والإثم والظلم والبغي في الأرض وغير ذلك مما جعله الله سبب البلاء والشقاء في الدنيا والآخرة ، وبفعل الطاعات والخيرات التي هي أسباب السعادة في الدارين ، فهذا معنى تفسير أوليائه الذين آمنوا وكانوا يتقون .
وأما ولاية المؤمنين بعضهم لبعض : فهي عبارة عن تعاونهم وتناصرهم في الأمور المشتركة مع استقامتهم على الأعمال الصالحة ; لأن الفساد الشخصي لا يتفق مع القيام بالمصالح العامة وذلك ظاهر من قوله في الآية ( 9 : 71 ) بعد ذكره هذه الولاية .
[ ص: 38 ] يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة إلخ ، ومن وصفهم بالمجاهدة في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم كما في الآية الأخرى ( 8 : 72 ) فكل من كان كذلك فقد وجبت ولايته على جميع المؤمنين ، ولا معنى لكون المؤمن وليا للمؤمن إلا هذا ، أي إنه عون له ونصير في الحق الذي يعلو به شأن الإيمان وأهله ، فمن تجاوز ذلك فاتخذ له وليا أو أولياء يعتقد أنهم يتولون شيئا من أموره فيما وراء هذا التعاون والتناصر بين الناس فقد أشرك ; إذ اعتدى على ولاية الله الخاصة به التي لا يشاركه فيها أحد لا بالتوسط عنده ولا الاستقلال دونه .
هذا المعنى هو عين
ولاية الكافرين للشيطان أو للطاغوت كما قال :
والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ 39 : 3 ] ولا يقال : إن هذا يقتضي أن يسمى بالطاغوت بعض من اتخذ وليا بهذا المعنى من الأنبياء والصالحين
كعيسى - عليه السلام - ، فإن الذين اعتقدوا هذه الولاية
لعيسى وغيره من الصالحين لم يتبعوهم في ذلك ، وإنما اتبعوا وحي شياطين الإنس والجن ووساوسهم ، فهم طاغوتهم كما قال :
وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم [ 6 : 121 ] الآية وقال :
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا [ 6 : 112 ] وإن بعضهم ليتبرأ من بعض يوم القيامة كما علم من الآيات الأخرى ، ومن هذا التقدير تعلم أن القرآن حجة على كل من أسند ولاية الله الخاصة إلى غيره وإن كان ينسب إلى الإسلام ، وقد
أوغل بعض متخذي الأولياء في دعاء أوليائهم ومطالبتهم بما لا يطلب إلا من الله - تعالى - حتى صار في المنتسبين إلى العلم منهم من يقول ويكتب أن فلانا الولي يميت ويحيي ويسعد ويشقي ويفقر ويغني ، فعليك أيها المؤمن بهدي القرآن ولا يغرنك تأويل أولياء الشيطان .