ثم
قال تعالى : قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى قالوا : أي كلام جميل تقبله القلوب ولا تنكره يرد به السائل من غير عطاء ، وستر لما وقع منه من الإلحاف في المسألة وغيره مما يثقل على النفوس ، أو ستر حال الفقير بعدم التشهير به - خير له من صدقة يتبعها أذى . وقيل : إن المراد بالمغفرة المغفرة من الله - تعالى - لمن يرد السائل ردا جميلا ، وذلك خير له عند الله - تعالى - من صدقة يتبعها أذى فهو يستحق عليها العقاب من حيث يرجو الثواب ، والجملة مستأنفة لتأكيد النهي عن المن والأذى في الآية السابقة .
وقال الأستاذ الإمام : القول بالمعروف يتوجه تارة إلى السائل إن كانت الصدقة عليه ، وتارة يتوجه إلى المصلحة العامة ، كما إذا هاجم البلد عدو وأرادوا جمع المال للاستعانة على دفعه ، فمن لم يكن له مال يمكنه أن يساعد بالقول المعروف الذي يحث على العمل وينشط العامل ، ويبعث عزيمة الباذل ، والمغفرة أن تغضي عن نسبة التقصير في الإنفاق إليك ، وأن تظهر في هيئة لا ينفر منها المحتاج ولا يتألم من فقره أمامك ، والمعنى أن مقابلة المحتاج بكلام يسر وهيئة ترضي خير من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو سوء المقابلة ، ولا فرق في المحتاج بين أن يكون فردا أو جماعة ، فإن مساعدة الأمة ببعض المال مع سوء القول في العمل الذي ساعدها عليه وإظهار استهجانه وبيان التقصير فيه أو تشكيك الناس في فائدة لا توازي هذه المساعدة . إحسان القول في ذلك العمل الذي تطلب له المساعدة والإغضاء عن التقصير الذي ربما يكون من العاملين فيه ، فكونك مع الأمة بقلبك ولسانك خير من شيء من المال ترضخ به مع القول السوء وفعل الأذى ، ومعنى هذه الخيرية أنه أنفع وأكثر فائدة لا أنه يقوم مقام البذل ويغني عنه ، فمن آذى فقد بغض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغضاء لهم ، ولا شك أن السلم والولاء ، خير من العداوة والبغضاء ،
[ ص: 54 ] وأن أضمن شيء لمصلحة الأمة وأقوى معزز لها هو أن يكون كل واحد من أفرادها في عين الآخر وقلبه في مقام المعين له وإن لم يعنه بالفعل .
وأقول : إن هذه الآية مقررة لقاعدة: " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " التي هي من أعظم قواعد الشريعة ، ومبينة أن الخير لا يكون طريقا ووسيلة إلى الشر ، ومرشدة إلى وجوب العناية بجعل العمل الصالح خاليا من الشوائب التي تفسده وتذهب بفائدته كلها أو بعضها ، وإلى أنه ينبغي لمن عجز عن إحسان عمل من أعمال البر وجعله خالصا نقيا أن يجتهد في إحسان عمل آخر يؤدي إلى غايته حتى لا يحرم من فائدته بالمرة ، كمن شق عليه أن يتصدق لا يمن ولا يؤذي فحث على الصدقة أو جبر الفقير بقول المعروف . ومن البديهي أن أعمال البر والخير لا يغني بعضها عن بعض ، فكيف يغني ترك الشرك واتقاء المفاسد عن عمل الخير والقيام بالمصالح .
والله غني بذاته وبما له ملك السماوات والأرض عن صدقة عباده فلا يأمر الأغنياء بالبذل في سبيله لحاجة به ، وإنما يريد أن يطهرهم ويزكيهم ويؤلف بين قلوبهم ويصلح شئونهم الاجتماعية ليكونوا أعزاء بعضهم لبعض أولياء ، والمن والأذى ينافيان ذلك فهو غني عن قبول صدقة يتبعها أذى لأنه لا يقبل إلا الطيبات . حليم لا يعجل بعقوبة من يمن ويؤذي . قال الأستاذ الإمام : يطلق الحلم ويراد به هذا اللازم من لوازمه ; أي الإمهال وعدم المعاجلة بالمؤاخذة ، وقد يراد به لازم آخر هذا الإغضاء والعفو وليس بمراد هنا لأنه لو أريد لكان تحريضا على الأذى ولكل مقال مقام يعينه ، فالأول يطلق في مقابل العجول الطائش ، والثاني في مقابل الغضوب المنتقم . وفي الاسمين الكريمين تنفيس لكرب الفقراء وتعزية لهم وتعليق لقلوبهم بحبل الرجاء بالله الغني المغني ، وتهديد للأغنياء وإنذار لهم أن يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم وعدم معاجلتهم بالعقاب على كفرهم بنعمته عليهم بالمال ، فإنه يوشك أن يسلبها منهم في يوم من الأيام .
ثم إنه لما كانت النفوس مولعة بذكر ما يصدر عنها من الإحسان للتمدح والفخر وكان ذلك مطية الرياء ، وطريق المن والإيذاء ، لا سيما إذا آنس المصدق تقصيرا في شكره على صدقته أو احتقارا لها ، فإنه لا يكاد يملك حينئذ نفسه ويكفها عن المن أو الأذى كما تقدم عن الأستاذ الإمام ، كان من الهدى القويم ومقتضى البلاغة أن يؤتى في النهي عن المن والأذى والرياء بعبارات مختلفة لأجل التأثير في التنفير عن ذلك ، والحمل على تركه ولذلك قال :