( الربا المحرم بنص القرآن والربا المحرم بأحاديث الآحاد والقياس )
التفرقة بين ما ثبت بنص القرآن من الأحكام وما ثبت بروايات الآحاد وأقيسة الفقهاء ضرورية ، فإن
من يجحد ما جاء في القرآن يحكم بكفره ، ومن يجحد غيره ينظر في عذره ، فما من إمام مجتهد إلا وقد قال أقوالا مخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة ، لأسباب يعذر بها وتبعه الناس على ذلك . ولا يعد أحد ذلك عليهم خروجا عن الدين ، حتى من لا عذر له في التقليد ، فما بالك بمخالفة بعضهم بعضا في الأقوال الاجتهادية التي تختلف فيها أقيستهم .
[ ص: 95 ] وقد فشا بين المسلمين أكل الربا مع ذلك الوعيد الذي نطق به القرآن ، وأكثرهم يعتقدون أن لفظ الربا فيه يتناول جميع ما قال فقهاء مذاهبهم أنه منه حتى بيع الحلي من الذهب بجنيهات يزيد وزنها على وزنه لمكان الصنعة في الحلي . وبعض العقود التي يعدها الفقهاء فاسدة أو باطلة ، وإنا نعلم أنه لا يكاد يوجد في عشرات الألوف من المسلمين رجل واحد يتحامى كل ما عده الفقهاء من الربا ، ولعله يندر في الفقهاء أنفسهم من يطبق شراء الحلي للنساء على قواعد الفقه ، كأن يشتري ما كان من الذهب بفضة ، وما كان من الفضة بذهب يدا بيد فيهما ، أو يتخذ لذلك حيلة فقهية فالناس في أشد الحاجة إلى التمييز بين الربا القطعي المتوعد عليه في القرآن الخلود في النار وبين غيره مما اختلف فيه أو كان وعيده دون وعيده ; لأن ضرره دون ضرره وإليك البيان :
قد علم مما تقدم في تفسير الآيات أنها نزلت في وقائع كانت للمرابين من المسلمين قبل التحريم ، فالمراد بالربا فيها ما كان معروفا في الجاهلية من
ربا النسيئة ، أي ما يؤخذ من المال لأجل الإنساء ، أي التأخير في أجل الدين . فكان يكون للرجل على آخر دين مؤجل يختلف سببه بين أن يكون ثمنا اشتراه منه أو قرضا اقترضه ، فإذا جاء الأجل ولم يكن للمدين مال يفي به ؛ طلب صاحب المال أن ينسئ له في الأجل ويزيد في المال ، وكان يتكرر ذلك حتى يكون أضعافا مضاعفة ، فهذا ما ورد القرآن بتحريمه لم يحرم فيه سواه ، وقد وصفه في آية آل عمران التي جاءت دون غيرها بصيغة النهي وهي قوله - عز وجل - :
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة [ 3 :130 ] وهذه أول آية نزلت في تحريم الربا فهو تحريم لربا مخصوص بهذا القيد ، وهو المشهور عندهم .
فقوله - تعالى - :
الذين يأكلون الربا الآيات ، يحمل الربا فيها على ما سبق ذكره في النهي الأول عملا بقاعدة إعادة المعرفة ووفاقا لقاعدة حمل المطلق على المقيد ، ويدعم ذلك مقابلته بالصدقة حيث ذكر وتسميته ظلما ، وقد أورد
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير - وهو إمام المفسرين وأعلمهم بالرواية - روايات كثيرة في ذلك أشرنا إليها في تفسير الآيات . وهذا النوع من الربا هو أشدهم ضررا وهو مذموم عند كل عاقل ، بل هو ممنوع في قوانين الأمم التي تبيح غيره من أنواع الربا .
قال
ابن القيم في ( إعلام الموقعين )
الربا نوعان : جلي وخفي ، فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم ، والخفي حرم ، لأنه ذريعة إلى الجلي ، فتحريم الأول قصدا وتحريم الثاني وسيلة ، فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية . مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال . وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافا مؤلفة ، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج ، فإذا رأى المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له ،
[ ص: 96 ] تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس ، ويدافع من وقت إلى وقت ، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل عليه لأخيه . فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر ، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه ، وآذن من لم يدعه بحرب الله وحرب رسوله . ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ، ولهذا كان أكبر الكبائر ، وسئل الإمام
أحمد عن الربا الذي لا يشك فيه فقال : هو أن يكون له دين فيقول له : أتقتضي أم تربي ؟ فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل ، وقد جعل الله - سبحانه وتعالى - الربا ضد الصدقة ، فالمرابي ضد المتصدق قال الله - تعالى - :
يمحق الله الربا ويربي الصدقات وقال :
وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون [ 30 :39 ] وقال :
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين [ 3 :130 ، 131 ] ثم ذكر الجنة التي أعدت للمتقين
الذين ينفقون في السراء والضراء [ 3 :134 ] وهؤلاء ضد المرابين . فنهى - سبحانه - عن الربا الذي هو ظلم الناس ، وأمر بالصدقة التي هي إحسان إليهم ، وفي الصحيحين من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عن
nindex.php?page=showalam&ids=111أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=918840إنما الربا في النسيئة ومثل هذا يراد به حصر الكمال ، وأن الربا إنما هو النسيئة كما قال :
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون [ 8 :2 ] إلى قوله :
أولئك هم المؤمنون حقا [ 8 :4 ] وكقول
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : " وإنما العالم الذي يخشى الله " انتهى كلام
ابن القيم في الربا الجلي الذي لا شك فيه . وأورد بعد ذلك فصلا في ربا الفضل - الذي حرم من باب سد الذرائع - وهو : أن يبيع الدرهم بالدرهمين وذكر خلاف الفقهاء فيه .
أقول : فهذا الربا الذي سماه العلامة
ابن القيم بالربا الجلي ، وقال الإمام
أحمد إنه الربا الذي لا يشك فيه ،
المحرم بنص القرآن وحده : هو هو ربا النسيئة الذي كانوا يضاعفونه على الفقير الذي لا يجد وفاء بتوالي الأيام والسنين ، هو هو مخرب البيوت ، ومزيل الرحمة من القلوب ، ومولد العداوة بين الأغنياء والفقراء ، وما معنى حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الربا فيه إلا بيان ما أراد الله - تعالى - من الربا الذي توعد عليه بأشد الوعيد الذي توعد به على الكفر ، فهل يسمح لعاقل عقله أن يقول : إن تحريم هذا الربا ضار بالناس أو عائق لهم عن إنماء ثروتهم ؟ إذا كانت الثروة لا تنمو إلا بتخريب بيوت المعوزين لإرضاء نهمة الطامعين فلا كان بشر يستحسن إنماء هذه الثروة .
[ ص: 97 ] وقد علمت أنه لا يدخل في هذا الربا الذي لا يشك فيه - كما قال الإمام
أحمد - شراء أسورة من الذهب بجنيهات تزيد عليها وزنا ، لأن هذه الزيادة في مقابلة صنعة الصانع وقد تكون قيمة الصنعة أعظم من قيمة مادة المصنوع . فإنه لا نسيئة في هذا البيع ، بل ولا ربا لا مقابل له ليكون باطلا ، ولا ضرر فيه على المشتري ولا ظلم ، ولا يدخل فيه أيضا من يعطي آخر مالا يستغله ويجعل له من كسبه حظا معينا ; لأن مخالفة قواعد الفقهاء في جعل الحظ معينا - قل الربح أو كثر - لا يدخل ذلك في الربا الجلي المركب المخرب للبيوت ; لأن هذه المعاملة نافعة للعامل ولصاحب المال معا ، وذلك الربا ضار بواحد بلا ذنب غير الاضطرار ، ونافع لآخر بلا عمل سوى القسوة والطمع ، فلا يمكن أن يكون حكمهما في عدل الله واحدا ، بل لا يقول عادل ولا عاقل من البشر : إن النافع يقاس على الضار ويكون حكمهما واحدا . إن كان شراء ذلك الحلي وهذا التعامل من الربا الخفي الذي يمكن إدخاله في عموم روايات الآحاد في بيع أحد النقدين بالآخر ونحو ذلك فهو محرم لسد الذرائع ، كما قال
ابن القيم لا لذاته ، وهو من الربا المشكوك فيه لا من المنصوص عليه في القرآن الذي لا شك فيه فليس لنا أن نكفر منكر حرمته ونحكم بفسخ نكاحه ونحرم دفنه بين المسلمين ، وليتأمل الذين لا يفرقون بين الربا المحرم في القرآن وبين غيره مقدار الحرج إذا حكموا بأن كل من اشترى حلية من الذهب بنقد منه وحلية من الفضة بنقد منها ، وكان النقد غير مساو للحلي في الوزن أو أجمل شيئا من ثمنه فهو كافر إن استحل ذلك ، ومرتكب أكبر الكبائر محارب لله ولرسوله إن كان فعله مع اعتقاد حرمته .
ولو كان مثل ذلك من المنصوص الذي لا شك فيه لما وقع فيه خلاف وقد اختلف الصحابة والأئمة ومن بعدهم من الفقهاء في كثير من مسائل الربا . ومن ذلك بيع الحلية فقد أوضح
ابن القيم الحجة على جواز بيعها بجنسها من غير اشتراط المساواة في الوزن . ومما قال في ذلك : إن
ربا الفضل إنما حرمه الله لسد الذريعة لا لذاته وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة ( راجع ص 203 من الجزء الأول من إعلام الموقعين ) .
وممن جوزوا من الصحابة والتابعين ربا الفضل مطلقا
عبد الله بن عمر ، ولكن رووا عنه أنه رجع عن ذلك ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ، واختلف في رجوعه ،
nindex.php?page=showalam&ids=111وأسامة بن زيد وابن الزبير nindex.php?page=showalam&ids=68وزيد بن أرقم nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير واستدلوا بحديث الصحيحين المتقدم
nindex.php?page=hadith&LINKID=918840إنما الربا في النسيئة فلو كان ربا الفضل كربا النسيئة لم يقع هذا الخلاف بين الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - أجمعين .
والغرض مما تقدم كله أن نفهم في تفسير القرآن ما حرم القرآن من الربا وتوعد عليه بأشد الوعيد وأن نفهم حكمته وانطباقه على مصلحة البشر وموافقته لرحمة الله - تعالى - بهم ،
[ ص: 98 ] وكونه لا حرج فيه ولا ضرر وأما ما ورد في روايات الآحاد وما قاله العلماء والفقهاء مما ليس في القرآن فليس التفسير بموضع لبيانه . وقد تقدم في كلام الأستاذ وكلام حجة الإسلام وكلام العلامة
ابن القيم نتف تشعر بحكمة بعضه وليطلب تعليل باقيه من كلام الأخيرين من شاء . والله أعلم وأحكم .