[ ص: 93 ] ( الأصول والقواعد الشرعية العامة في سورة البقرة )
( القاعدة الأولى ) إن
اتباع هدي الله المنزل على رسله وهو الدين موجب للسعادة بأن أصحابه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وهذا وعد يشمل الدنيا والآخرة لإطلاقه ، ولكنه في الدنيا إضافي مطرد في الأمم ، وإضافي مقيد غير مطرد في الأفراد ، وفي الآخرة حقيقي مطرد للجميع ، وموجب لشقاء من أعرض عنه بعد بلوغ دعوته على وجهها على نسبة مقابله في الدارين والشاهد عليه قوله تعالى
لآدم ومن معه : (
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى ) الآية 38 والتي بعدها 39 . وراجع معناهما في سورة طه (
فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) ( 20 : 123 ) الآية وما بعدها إلى ( 128 ) فهي موضحة لما أردنا هنا .
( القاعدة الثانية ) قوله تعالى : (
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) الآية 40 ، وهي مقيدة لسعادة الدين بأنها تحصل بإقامته ، فالله يقول : (
وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) في باب الإطلاق ، ويقول في باب التقييد : (
إن تنصروا الله ينصركم ) وهذا شاهد على التقيد الذي ذكرناه في القاعدة الأولى ، ومثله (
فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ) راجع الآيات 84 - 86 .
( القاعدة الثالثة ) قوله تعالى : (
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) وهي صريحة في أن هذا مخالف للمنقول الشرعي وهو الكتاب ، وللمعقول الفطري ، إذ لا يخفى على عاقل قبح عمل من يأمر غيره بالخير وهو يتركه ، أو ينهاه عن فعل ما يضره من الشر وهو يفعله ، وأنه يقيم بذلك الحجة على نفسه ، ولا يكون أهلا لأن يمتثل أمره ونهيه .
( القاعدة الرابعة ) قوله تعالى في مقام الإنكار على
بني إسرائيل : (
أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) صريح في وجوب ترجيح الأعلى على الأدنى وإيثار الخير على الشر والإرشاد إلى طلب ما هو خير وأفضل مما يقابله ، وفي طلب المعالي والكمال في أمور الدنيا والآخرة . وفي معناه قوله تعالى : (
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) ( : 130 ) .
[ ص: 94 ] ( القاعدة الخامسة ) قوله تعالى : (
إن الذين آمنوا والذين هادوا ) الآية 62 صريح في أن أصول دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله هذه الثلاثة : الإيمان بالله ، والإيمان باليوم الآخر وما فيه من الجزاء ، والعمل الصالح . ومنه ما ذكر في الآية 83 من ميثاق بني إسرائيل ، فثمرة الإيمان منوطة بالثلاثة .
( القاعدة السادسة ) أن الجزاء على الإيمان والعمل معا ؛ لأن
الدين إيمان وعمل .
ومن الغرور أن يظن المنتمي إلى دين نبي من الأنبياء ، أنه ينجو من الخلود في النار بمجرد الانتماء ، والشاهد عليه ما حكاه الله لنا عن بني إسرائيل من غرورهم بدينهم وما رد به عليهم حتى لا نتبع سننهم فيه ، وهو : (
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) الآيات 80 - 82 وما حكاه عن
اليهود والنصارى جميعا من قولهم : (
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم ) إلخ الآيتين 111 و 112 ، ولكننا قد اتبعنا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع مصداقا لما ورد في الحديث الصحيح . وإنما نمتاز عليهم بأن المتبعين لهم بعض الأمة لا كلها . وبحفظ نص كتابنا كله وضبط سنة نبينا في بيانه ، وبأن حجة أهل العلم والهدى منا قائمة إلى يوم القيامة .
( القاعدة السابعة ) أن
شرط الإيمان : الإذعان النفسي لكل ما جاء به الرسول الذي يلزمه العمل عند انتفاء المانع ، ومأخذه قوله تعالى : (
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) الآية 83 إلى آخر الآية 86 وقوله : (
أوكلما عاهدوا عهدا ) الآية 100 ، فمن ترك بعض العمل بجهالة فهو فاسق إلى أن يتوب ، ومن تركه لعدم الإذعان له كان كافرا به ، والكفر بالبعض كالكفر بالكل ، والشاهد عليه قوله تعالى : (
أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) الآية .
وليس هذا من الكفر العملي الذي لا يخرج به صاحبه من الملة الذي استشهدوا له بحديث : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918605لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) إلخ كما قال بعض العلماء ؛ لأن هذا النوع هو من عمل الأفراد الذي تغلبهم عليه داعية طبيعية كالشهوة والغضب . وما نحن فيه عبارة عن عدم العمل بالشرع الإلهي لعدم الإذعان له ، كاستباحة قتل فريق من الأمة ونفي فريق آخر من وطنه بمحض اتباع الهوى والطمع في عرض الدنيا ، لا بجهالة عارضة يغلب فيها الفرد على أمره ثم يثوب إليه رشده فيتوب إلى ربه .
( القاعدة الثامنة )
النسخ أو الإنساء للآيات الإلهية التي يؤيد الله بها رسله كما يقتضيه سياق قوله تعالى : (
ما ننسخ من آية أو ننسها ) اقرأها وما بعدها ( 106 و 107 ) أو للآيات التشريعية كما فهم الجمهور . كلاهما من رحمة الله بجعل البدل خيرا من الأصل ، أو مثله على الأقل ، وتكون الخيرية في المثل التنويع وكثرة الآيات .
( القاعدة التاسعة ) قوله تعالى : (
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) ( 120 )
[ ص: 95 ] آية للنبي كاشفة عن حال أهل الملتين في عصره ، ولا تزال مطردة في أمته من بعده ، وقد اغتر زعماء بعض الشعوب الإسلامية فحاولوا إرضاء بعض الدول بما دون اتباع ملتهم من الكفر فلم يرضوا عنهم ، ولو اتبعوا ملتهم لاشترطوا أن يتبعوهم في فهمها وصور العمل بها ، حتى لا يبقى لهم أدنى استقلال في دينهم ولا في أنفسهم .
( القاعدة العاشرة ) أن
الولاية العامة الشرعية حق أهل الإيمان والعدل ، وأن الله تعالى لن يعهد بإمامة الناس وتولي أمورهم للظالمين ، فكل حاكم ظالم فهو ناقض لعهد الله تعالى .
راجع قول الله تعالى في
إبراهيم - عليه السلام - بعد ابتلائه مما ظهر به استحقاقه للإمامة : (
قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) ( : 124 ) .
( القاعدة الحادية عشرة ) أن الإيمان الحق والاعتصام بدين الله تعالى المنزل كما أنزله يقتضي الوحدة والاتفاق ، وترك الاهتداء به يورث الاختلاف والشقاق ، وشواهده من السورة قوله تعالى : (
فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق ) ( 137 ) وقوله : (
ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) ( 176 ) وقوله : (
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين ) ( 213 ) إلخ .
( القاعدة الثانية عشرة )
الاستعانة على النهوض بمهمات الأمور بالصبر والصلاة قال تعالى : (
واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) ( 45 ) .
وقوله - عز وجل - : (
يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ) ( : 153 ) .
وهذه قاعدة جليلة راجع تفصيلها في تفسيرنا للآيتين وأمثالهما .
( القاعدة الثالثة عشرة ) بطلان التقليد للآباء والأجداد والمشايخ والمعلمين والرؤساء ؛ لأنه جهل وعصبية جاهلية ، والشواهد عليه في هذه السورة وغيرها عديدة أظهرها هنا ما حكاه الله تعالى لنا عن تبرؤ المتبوعين من الأتباع يوم القيامة في الآيتين ( 166 و 167 ) وقوله - عز وجل - : (
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ومثل ) ( 170 ) وإن في تحريم التقليد وتصريح الكتاب العزيز بأن الله تعالى لا يقبله ولا يعذر صاحبه في الآخرة لتأكيدا شديدا لإيجاب العلم الاستقلالي الاستدلالي في الدين ، وهو لا يقتضي الاجتهاد المطلق في جميع مسائل التشريع ، أعني - الاستنباط العام بوضع الأحكام لكل ما يحتاج إليه الأفراد والحكام - وإن في إطلاق مقلدة المصنفين من خلف القرون الوسطى القول بإيجاب تقليد المجتهدين في أمور الدين ، وتحريم الأخذ بالدليل فيه - لاشتراطهم فيه استعداد كل مستدل مستقل للتشريع - لافتياتا على دين الله ، ونسخا لكتاب الله ، وشرعا لم يأذن به الله ، خلاصته تحريم العلم وإيجاب الجهل ، وهذا منتهى الإفساد للفطرة والعقل ، وهو أقطع المدى لأوصال الإسلام ، وأفعل
[ ص: 96 ] المعاول في هدم قواعد الإيمان ، وعلة العلل لانتشار البدع التي ذهبت بهداية الدين ، واستبدلت بها الخرافات ودجل الدجالين .
( القاعدة الرابعة عشرة ) إباحة جميع طيبات المطعم الطبيعية بحسب أفرادها وإيجاب الأكل منها بحسب جنسها ، وامتناع التحريم الديني العام لما لم يحرم الله تعالى منها ، وذلك قوله تعالى : (
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) ( 168 ) وقوله : (
يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) ( 172 ) الآية . وقوله بعدها : (
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) ( 173 ) فحصر المحرمات في هذه الأربعة ، ومثله في سورة الأنعام والنحل من السور المكية ، وفي سورة المائدة المدنية تفصيل في الميتة بجعل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع منها ، إذا ماتت بذلك ولم تدرك تذكيتها ، وقيدت آية الأنعام الدم بالمسفوح .
( القاعدة الخامسة عشرة )
إباحة المحرمات للمضطر إليها ، بشرط أن يكون غير باغ لها ولا عاد فيها بتجاوز قدر الضرورة أو الحاجة منها ، وذلك قوله تعالى في تتمة الآية الأخيرة من شواهد القاعدة التي قبل هذه : (
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) وليست القاعدة مقصورة على محرمات المطاعم بل عامة لكل ما يتحقق الاضطرار إليه لأجل الحياة واتقاء الهلاك ، ولم يعارضه مثله أو ما هو أقوى منه ، فالزنا ليس مما يضطر الناس إليه ، لذلك كما قال العلماء ، ومن اضطر إلى رغيف مضطر مثله فليس له أن يرجح نفسه على صاحب اليد وهو مالك الرغيف .
( القاعدة السادسة عشرة )
بناء الدين عباداته وغيرها على أساس اليسر ، ورفع الحرج والعسر - كما علل سبحانه به رخصة الفطر في رمضان بقوله : (
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ومثله تعليل رخصة التيمم برفع الحرج كما في سورة المائدة ، وهذه القاعدة أوسع مما قبلها ؛ لأن هذه في ترك الواجب ، إلى بدل عاجل أو آجل ، وتلك في استباحة المحرم ولو مؤقتا ، فإن ترك الواجبات أهون من فعل المنهيات ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918606فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) رواه الشيخان ، وهذا اللفظ لمسلم وهو من أثناء حديث . وسبب هذا أن الترك أهون على غير المضطر من الفعل ؛ لأن الأصل عدمه .
( القاعدة السابعة عشرة ) عدم
تكليف ما لا يطاق ، وهذا أصل للتين قبلها والنص فيها قوله تعالى في آخر الآية من السورة : (
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( 286 ) ووسع الإنسان ما لا حرج فيه عليه ولا عسر ؛ لأنه ضد الضيق ، ولذلك كانت هذه أوسع مما قبلها وأصلا لهما ، فالله لم يكلفنا في دينه وشرعه ما لا طاقة لنا به ، ولا يدخل في وسعنا امتثاله بغير عسر ولا حرج فإذا عرض العسر
[ ص: 97 ] عروضا بأسبابه العادية كالاضطرار لأكل الميتة والدم المسفوح ، وكالمرض والسفر اللذين يشق فيهما الصوم ، واستعمال الماء في الغسل والوضوء ، لو يضر ترك الأول بنية القضاء ، والثاني إلى التيمم المبيح للصلاة ، ولا تترك الصلاة نفسها لعسر أحد شروطها وعدم عسرها في نفسها ، وهي لا تعسر من حيث هي توجه إلى الله تعالى ومناجاة له بكتابه وذكره ودعائه ، فإن شق على المصلي بعض أفعالها كالقيام استبدل به القعود ، فإن شق عليه القعود صلى مضطجعا أو مستلقيا .
( القاعدة الثامنة عشرة )
حظر التعرض للهلكة في قوله تعالى : (
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ( 195 ) فلا يجوز للمؤمنين ولا سيما جماعتهم أن يتعمدوا إلقاء أنفسهم إلى الهلاك بسعيهم واختيارهم ، ويلزمه وجوب اجتناب أسباب التهلكة من فعلية وتركية - وبتعبير المناطقة من سلبية وإيجابية - ويدل عليه ذكر هذا النهي عقب الأمر بالإنفاق في سبيل الله لما يحتاج إليه الدفاع من النفقات الكثيرة ، ولا سيما في هذا العصر الذي تعددت فيه آلات القتال ووسائله وعظمت نفقاتها فصارت الأمم العزيزة تنفق الملايين من الجنيهات على وسائل الحرب البرية والبحرية والجوية ، وفروع هذه القاعدة كثيرة .
( القاعدة التاسعة عشرة ) إتيان البيوت من أبوابها لا من ظهورها ، أي طلب الأشياء بأسبابها دون غيرها ، فلا تجعل العادة عبادة ، ولا العبادة عادة ، ولا تطلب فنون الدنيا من نصوص الدين (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918607أنتم أعلم بأمر دنياكم ) كما قال خاتم النبيين ، وأصل هذه القاعدة ما يدل عليه قوله تعالى : (
وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ) ( 189 ) فللزراعة والتجارة والصناعة وفنون الحرب وآلاته وأسلحته أبواب لا يصل إليها إلا من يدخل منها ، ولعقائد الدين وعباداته وآدابه وحلاله وحرامه أبواب معروفة من كتاب الله وسنة رسوله ، ولأصول تشريعه السياسي أبواب من النصوص والاجتهاد معروفة أيضا ، فما اعتيد في هذه القرون الأخيرة من قراءة صحيح البخاري في المسجد لأجل النصر على الأعداء مخالف لهذه القاعدة ، وليس من المخالف لها الدعاء وتوجه المقاتلة إلى الله لنصرهم بعد إعداد ما استطاعوا من القوة لعدوهم ، فإن الدعاء من أسباب القوة المعنوية .
( القاعدة العشرون )
حرية الدين والاعتقاد ومنع الاضطهاد الديني ولو بالقتال حتى يكون الدين كله لله ومنع الإكراه على الدين ، وذلك قوله تعالى : (
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) ( 193 ) .
الفتنة : اضطهاد الإنسان لأجل دينه بالتعذيب والقتل والنفي كما فعل المشركون بالمسلمين في صدر الإسلام ، ولذلك قال في آيات القتال التي نزلت قبل هذه في سورة الحج : (
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) ( 22 : 39 - 40 ) إلخ .
[ ص: 98 ] ولذلك مهد لهذه الغاية هنا بقوله قبلها (
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ) ( : 191 ) ثم قفى عليها بقوله : (
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) ( 217 ) الآية .
وأما النهي عن الإكراه في الدين حتى الإسلام فقوله تعالى : (
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ( 256 ) وقد ذكرنا في تفسيرها ما رواه المحدثون ومصنفو التفسير المأثور من سبب نزولها .
وملخصه : أنه كان لدى
بني النضير من
يهود المدينة أولاد من أبناء الصحابة ربوهم وهودوهم ، فلما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجلائهم لتواتر إيذائهم أراد المسلمون أن يأخذوا أبناءهم منهم ويكرهوهم على الإسلام فنزلت الآية . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918608قد خير الله أصحابكم ، فإن اختاروهم فهم منهم ، وإن اختاروكم فهم منكم ) ) .
ومع هذه النصوص لا يزال يوجد حتى في المسلمين من يصدق افتراء أعداء الإسلام بأنه قام بالسيف والإكراه على الدين ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يبدأ المشركين بالقتال .
( القاعدة الحادية والعشرون ) أن
القتال شرع في الإسلام لمصلحتين أو ثلاث :
" الأولى " الدفاع عن المسلمين وأوطانهم ، فإن المشركين أخرجوا النبي ومن كان آمن معه من أهل مكة ثم بدءوهم بالقتال وساعدهم عليهم أهل الكتاب ، وما زالوا يبدءونهم ويقاتلونهم حتى عجزوا ، وذلك قوله تعالى : (
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) ( 190 ) .
" الثانية " تأمين حرية الدين ومنع الاضطهاد فيه وهو قوله : (
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) ( 193 ) هذا ما نزل في هذه السورة .
" الثالثة " ما في سورة التوبة من تأمين سلطان الإسلام وسيادته بدفع المخالفين له للجزية .
( القاعدة الثانية والعشرون ) أن من
شأن المسلمين طلب ما هو أثر لازم للإسلام من سعادة الدنيا والآخرة معا - كما تقدم في القاعدة الأولى - وإنما تتحقق الغايات ولوازم الأمور بطلبها والسعي لها .
فليس من هديه أن يترك المسلمون الدنيا ومعايشها وسياستها ويكونوا فقراء أذلاء تابعين للمخالفين لهم من الأقوياء ، ولا أن يكونوا كالأنعام لا هم لهم إلا في شهواتهم البدنية ، وكالوحوش التي يفترس قويها ضعيفها . وهذا الجمع بين الأمرين مقتضى الفطرة ، والإسلام دين الفطرة .
[ ص: 99 ] وذلك هو ما أرشدنا الله إليه بقوله : (
فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ( : 200 ، 201 ) إلخ .
( القاعدة الثالثة والعشرون ) أن
الأحكام الاجتهادية التي لم تثبت بالنص القطعي الصريح رواية ودلالة لا تجعل تشريعا عاما إلزاميا بل تفوض إلى اجتهاد الأفراد في العبادات الشخصية والتحريم الديني الخاص بهم ، وإلى اجتهاد أولي الأمر من الحكام وأهل الحل والعقد في الأمور السياسية والقضائية والإدارية ، ومأخذه الآية (
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) ( 219 ) ووجهه : أن هذه الآية تدل على تحريم الخمر والميسر بضرب من الاجتهاد في الاستدلال ، وهو أن ما كان إثمه وضرره أكبر من نفعه فهو محرم يجب اجتنابه ، وذلك ما فهمه بعض الصحابة فامتنعوا من الخمر والميسر ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزم الأمة هذا ، بل أقر من تركهما ومن لم يتركهما على اجتهادهما إلى أن نزل النص القطعي الصريح بتحريمهما والأمر باجتنابهما في سورة المائدة فحينئذ بطل الاجتهاد فيهما ، وأهرق كل واحد من الصحابة ما كان عنده من الخمر وصار النبي - صلى الله عليه وسلم - يعاقب من شربها .
وبناء على هذه القاعدة كان يعذر كل أحد من سلف الأمة من خالفه أو خالف بعض الأخبار والآثار الاجتهادية غير القطعية رواية ودلالة ، ولم يوجبوا على أحد أن يتبع أحدا في اجتهاده كما يفعل الخلف المقلدون .
وبناء على هذه القاعدة لم يقبل الإمام مالك - رحمه الله تعالى - من المنصور أولا ، ولا من هارون الرشيد ثانيا أن يحمل المسلمين على العمل بكتبه ولا بالموطأ الذي هو أصح ما رواه من الأخبار المرفوعة وآثار الصحابة ، وواطأه عليه جمهور من علماء عصره .
( القاعدة الرابعة والعشرون - إلى السابعة والعشرين )
بناء أمور الزوجية والبيوت وتربية الأولاد على أربع دعائم :
1 - قيام النساء بالأمور التي تقتضيها وظيفتهن كالرضاعة وغيرها من أمور تربية الأطفال ، ويقوم الزوج بالنفقة كلها .
2 - ألا يكلف كل منهما ما ليس في وسعه مما يدخل في حدود وظيفته والواجب عليه .
3 - لا يضار أحد منهما بالولد ، ولا بغيره بالأولى ، والمضارة دون تكليف ما ليس في الوسع .
4 - إبرام الأمور غير القطعية بالتراضي والتشاور .
[ ص: 100 ] وهذه القواعد ظاهرة صريحة في الآية : (
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) ( 233 ) ولو عمل المسلمون بهذه القواعد وأمثالها من أحكام الكتاب والسنة لكانوا أسعد الأمم في بيوتهم ، ولما وجد من أعدائهم ولا من زنادقتهم من يهذي بإسناد ظلم النساء إلى الإسلام ، أو حاجة المسلمين إلى تقليد غيرهم في شيء من إصلاح البيوت ( العائلات ) .
( القاعدة الثامنة والعشرون ) جعل
سد ذرائع الفساد والشر وتقرير المصالح وإقامة الحق والعدل في تنازع الناس بعضهم مع بعض مناطا للتشريع ، وأصلا من أصول الأحكام الاجتهادية ، وذلك أن الله تعالى علل به شرعه للقتال ، ومنته على نبيه داود وجنده بالنصر على عدوهم ، وما يترتب عليه من إيتائه الحكم والنبوة إذ قال : (
فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) ( 251 ) وفي معناه تعليل الإذن للمسلمين في القتال أول مرة بآيات سورة الحج التي استشهدنا بها في القاعدة العشرين (
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) ( 22 : 40 ) وما هنا أعم ؛ لأنه يشمل درء هذه المفسدة في الدين وغيرها من الفساد الديني والدنيوي ، وهو المتأخر في النزول .
( القاعدة التاسعة والعشرون ) أن الإيمان بلقاء الله تعالى في الآخرة ، والاعتصام بالصبر - الذي هو من أركان البر وكماله من ثمرات الإيمان - سببان من أسباب نصر العدد القليل على العدد الكثير وذلك قوله - عز وجل - : (
قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) ( 249 ) .
( القاعدة الثلاثون )
تحريم أكل أموال الناس بالباطل في ( الآية 188 ) وهي أصل لكل المحرمات ، ومن أدلتها تعليل تحريم الربا بعد الأمر بترك ما كان باقيا لأصحابه منه لدى المدنيين بقوله تعالى : (
وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) ( 279 ) فإن الذي كان يقرض المحتاج بالربا إلى أجل كان يقول له إذا حل الأجل : إما أن تقضي وإما أن تربي . فإن لم يجد ما يقضي به أنسأ له في الدين إلى أجل آخر بمثل الربا الأول فإذا حل الأجل الثاني قال له : إما أن تقضي وإما أن تربي - وهلم جرا - فكل ما يأخذه من هذه الزيادات
[ ص: 101 ] باطل لا مقابل له وهو ظلم ، وأما العقود والمعاملات التي لا ظلم فيها بأكل مال أحد المتعاقدين بالباطل فليست من الربا .
( القاعدة الحادية والثلاثون ) أن عمل كل إنسان له أو عليه لا يجزى إلا به ولا يجزى به سواه ، فلا ينفعه عمل غيره ولا يضره ، وذلك قوله تعالى في خاتمة هذه السورة : (
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ( 286 ) ويعززها قوله تعالى في الآية التي ورد أنها آخر آية نزلت من القرآن ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضعها بعد آيات الربا من هذه السورة وهي : (
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) ( 281 ) وإن لم ترد بصيغة الحصر ، وفيه آيات كثيرة ، فقد سبق بيان هذه القاعدة من قواعد العقائد في بعض السور المكية التي نزلت قبلها ، كقوله تعالى في سورة النجم : (
ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ( 53 : 38 - 39 ) إلخ وكقوله في سورة الأنعام : (
ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ( 6 : 164 ) ويجد القارئ في تفسير هذه الآية من الجزء الثامن ما يؤيد هذه القاعدة من الشواهد وما جعلوه معارضا لها مخصصا لعمومها من انتفاع الميت والحي بعمل غيره وما يصح منه وما لا يصح ، وكون الصحيح منه لا ينافي عموم القاعدة .
( القاعدة الثانية والثلاثون ) بيان
بطلان الشفاعة الوثنية التي كانت أساس شرك العرب ومن قبلهم ، وهي التقرب إلى الله بالدعاء وغيره ، ليشفعوا لهم عند الله تعالى فيكشف ما بهم من ضر ، ويؤتيهم ما طلبوا من نفع ، وزاد عليهم مشركو أهل الكتاب والمؤمنون بالبعث الاعتماد على الشفعاء بالنجاة من عذاب الآخرة ، قال تعالى : (
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ( 10 : 18 ) الآية . وقد نفى الله تعالى هذه الشفاعة بقوله من هذه السورة خطابا لهذه الأمة : (
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) ( 254 ) وقوله في خطاب بني إسرائيل : (
واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ) ( 48 ) وفي معناها ( آية 123 ) وأما الشفاعة الثابتة في الأحاديث فهي غير هذه ولا تنافي التوحيد ، وكون الشفاعة لله جميعا سيأتي بيانها .
( القاعدة الثالثة والثلاثون ) بناء أصول الدين في العقائد وحكمة التشريع على إدراك العقل لها واستبانته لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد ، وسد ذرائع الفساد ، والشاهد عليه من هذه السورة قوله تعالى في الاستدلال على توحيده بآياته في السماوات والأرض وما بينهما : (
إن في خلق السماوات والأرض ) - إلى قوله : - (
لآيات لقوم يعقلون ) ( 164 ) ثم قوله
[ ص: 102 ] في إبطال التقليد : (
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) ( 170 ) وكذلك قوله تعالى بعد ذكر طائفة من الأحكام العملية (
كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ) ( 242 ) .
( يقول محمد رشيد ) : هذا ما فتح الله به علي بتصفح صحائف السورة دون تلاوتها ويمكن الزيادة عليه بالتأمل فيها وتدبرها ، وإنما وعدنا بتلخيصها بالإجمال دون التفصيل ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .