( النوع الثالث - القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ) : أي كثرة المال وهو مما أودع في الغرائز ، وعلته أن المال وسيلة إلى الرغائب وموصل إلى الشهوات واللذائذ ، ورغائب الإنسان غير محدودة ، وأفراد لذائذه غير معدودة ، فهو لاستعداده الذي لا منتهى له يطلب الوسائل إلى رغائب لا منتهى لها ، وهذه الرغائب يتولد بعضها من بعض .
فما قضى أحد منها لبانته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب
فلا جرم أن الإنسان لا يستكثر المال مهما كثر ، بل إن كثرته هي التي تزيد فيه نهمته ، حتى إنه لينسى أنه وسيلة إلى غيره فيجعل جمعه مقصدا يتفنن في طرقه كلما سلك طريقا عن له من السلوك فيه طرق أخرى . قال - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=918869لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون له ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب رواه الشيخان من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما .
والتعبير بالقناطير المقنطرة يشعر بأن الكثرة هي التي تكون مظنة الافتتان لأنها تشغل بالتمتع بها القلب ، وتستغرق في تدبيرها الوقت ، حتى لا يكاد يبقى في قلب صاحبها منفذ للشعور بالحاجة إلى غيرها من طلب الحق ونصرته في الدنيا ، والاستعداد لما أعده الله للمتقين في الأخرى ، وما بعث الله رسولا في أمة ولا مصلحا في قوم إلا وكان الأغنياء أول من كفر وعاند وأبى واستكبر ، وإن مؤمني الأغنياء أقلهم عملا وأكثرهم زللا . قال - تعالى - :
سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا [ 48 :11 ] . وقال :
واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم [ 8 :28 ] . فقدم الفتنة بالأموال على الفتنة بالأهلين ، وكأنه إنما أخر ذكر الأموال هنا عن ذكر النساء والبنين ; لأن الكلام في طبيعة الحب لا في الاشتغال والفتنة به خاص ، وحب النساء والبنين مقصد ، وحب المال وسيلة لا يجعله مقصدا إلا من أعمته الفتنة عن الحقيقة . ولو أردنا أن نخوض في شرح
فتنة الناس بالمال وكيف تشغلهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن وحقوق من يعاملهم ، بل وعن حقوق بيوتهم وعيالهم ، بل وعن حقوق أنفسهم على أنفسهم بما يثلمون شرفهم أو يقصرون في النفقة التي تليق بهم لأطلنا وخرجنا عن حد الوقوف عند بيان كون المال من متاع الحياة الدنيا بمقدار ما نفهم العبرة من الآي ، ونكون قد جعلنا الكلام في المال مقصدا كما جعله الأشحة من الأغنياء مقصدا ، أما لفظ " القنطار " فمعناه العقدة المحكمة من المال ، وهو ما يعبر عنه التجار الآن بالصر أو الصرة . هذا هو الأصل فيه عندي وسائر الأقوال في معناه ترجع إليه ، فمنها أنه المال الكثير بعضه على بعض ، ومنها أنه وزن اثنتي عشرة ألف أوقية . وروي مرفوعا
[ ص: 201 ] عند
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير أو ألف ومائتا أوقية . وروي عن
معاذ أو ألف دينار ومائتا دينار ، وروي عن
أبي مرفوعا . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ثمانون ألف درهم كذا في المخصص ، وروي عنه غير ذلك . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي مائة رطل من ذهب أو فضة ، وعن
قتادة أنه مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألفا من الورق . وكأن كل هذا مما يطلق عليه لفظ القنطار باختلاف العرف . ويشهد له ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13247ابن سيده في المخصص في بعض الأقوال فيه إذ عزا القول بأنه ألف مثقال من ذهب أو فضة إلى البربر ، قال : وهو بالسريانية ملء مسك ثور ( أي جلده ) ذهبا أو فضة . ولكنه ذكر أن
أبا عبيد لم يقيده بالسريانية . ونقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : القنطار عربي وهو رباعي ، وقنطار مقنطر مكمل على المبالغة . اهـ . وقيل : المقنطرة المحكمة العقد ، وقيل : المضروبة من دنانير أو دراهم ، وقيل : المنضدة في وضعها ، وقيل : المكنوزة ، ولا يزال الناس يختلفون في القنطار فهو في
الشام مائة رطل برطلهم ، ورطلهم ثمانمائة درهم في أكثر البلاد ، وفي
مصر مائة رطل برطلهم ورطلهم 144 درهما .