إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين قيل : إن المراد بهذه الآية
إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق اليهود خاصة ، وقد نسب إليهم قتل النبيين الذي كان من سابقهم لاعتبار الأمة في تكافلها وجري لاحقها على أثر سابقها ، كالشخص الواحد - على ما مر بيانه عن الأستاذ الإمام غير مرة - على أن
اليهود همت بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمن نزول الآية ، والسورة مدنية - كما علمت - وهم بذلك قومه الأميون من قبل في
مكة ، ثم كان كل من الفريقين حربا له وهم المعتدون ; ولذلك قال آخرون : إن الآية فيمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب والأميين ، فكل قاتله وقاتل الذين يأمرون بالقسط من المؤمنين به ، والظاهر الأول حتى على قراءة
حمزة ( ويقاتلون الذين ) لأن محاولة قتل نبي لا يعبر عنه بـ " يقتلون " النبيين ، والقتال غير القتل ولما في آيات أخرى من إطلاق مثل هذا التعبير على
اليهود خاصة ، ولا حاجة إلى القول بأن المراد مجموع الكافرين الذين يقتل بعضهم النبيين وبعضهم الذين يأمرون بالقسط ، فالآية وما بعدها انتقال إلى خطاب
اليهود خاصة ،
فاليهود هم الذين جروا على الكفر بآيات الله من عهد
موسى إلى عهد
محمد - عليهما الصلاة والسلام - ، وبذلك تشهد عليهم كتبهم قبل القرآن ، وعلى قتل النبيين
كزكريا ويحيى - عليهما الصلاة والسلام - ، ولكن الأستاذ الإمام وجه القول بالعموم وجعله بالنسبة إلى مشركي العرب الذين حاولوا قتل نبي واحد على حد كون قتل النفس الواحدة كقتل جميع الناس . وقوله - تعالى - :
بغير حق بيان للواقع بما يقرر بشاعته وانقطاع
[ ص: 216 ] عرق العذر دونه ، وإلا فإن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقا كما قال المفسرون . وأقول : إن هذا القيد يقرر لنا أن العبرة في ذم الشيء ومدحه تدور مع الحق وجودا وعدما لا مع الأشخاص والأصناف . وإذا قلنا : إن كلمة ( حق ) هنا المنفية تشمل الحق العرفي بقاعدة أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم يدخل في ذلك مثل قتل
موسى - عليه السلام - للمصري وإن لم يكن متعمدا لقتله ، فإذا كانت الشريعة المصرية تقضي بقتل مثله وقتلوه في عرفهم لا يذمون عليه ، وإنما تذم شريعتهم إذا لم تكن عادلة ،
واليهود لم يكن لهم حق ما في قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقة ولا عرفا .
ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس أي الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدالة العامة في كل شيء ، ويجعلونها روح الفضائل وقوامها ، ومرتبتهم في الهداية والإرشاد تلي مرتبة الأنبياء وأثرهم في ذلك يلي أثرهم ; ذلك أن جميع طبقات الناس تنتفع بهدي الأنبياء ، كل صنف بقدر استعداده ، وأما الحكماء فلا ينتفع بهم إلا بعض الخواص المستعدين لتلقي الفلسفة ، ألم تر كيف اصطلم التوحيد وثنية العرب في مدة قليلة بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف عجزت دعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد عن مثل ذلك أو ما يقاربه فلم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلا قليل من طلاب الفلسفة ؟ ذلك بأن دعوة النبي على ما تختص به من التأييد الإلهي وتأثير روح الوحي لها ثلاثة مظاهر بينها الله - تعالى - في قوله :
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 : 125 ] فالحكمة ما يدعى به العقلاء وأهل النظر من البراهين والحجج ، والموعظة ما يدعى به العوام السذج ، والجدل بالتي هي أحسن للمتوسطين الذين لم يرتقوا إلى الاستعداد لطلب الحكمة ولا ينقادون إلى الموعظة بسهولة ، بل يبحثون بحثا ناقصا ، فلا بد من الحسنى في مجادلتهم ومخاطبتهم على قدر عقولهم ، وأما الحكماء فإن لهم طريقة واحدة في الدعوة إلى الحق ، والفضيلة مبنية على طلب العدل في الأفكار والأخلاق ، وقد يكون الحكيم الذي يدعو إلى ذلك متدينا ويجري في الإقناع بالدين على الطريقة المذكورة آنفا ، وقد يكون غير متدين وهو مع ذلك يدعو إلى القسط والعدل من العقل بحسب ما وصل إليه علمه مع الصدق والإخلاص ، والإقدام على قتل هؤلاء دليل على غمط العقل ومقت العدل ، وأقبح بذلك جرما وكفى به إثما . ولم يفسر الأستاذ الإمام الذين يأمرون بالقسط بالحكماء ، بل قال : إن مرتبة هؤلاء تلي مرتبة الأنبياء ، وقال : إن قوله - تعالى - : من الناس يشعر بقلتهم . وأقول على ما تقدم من الاختيار : إنه يشعر بشمول قوله :
الذين يأمرون بالقسط لمن بلغته دعوة نبي على وجهها فآمن به ، ومن لم يكن كذلك ، وإلا لقال : والذين يأمرون بالقسط من المؤمنين . وفي هذا تعظيم شأن الحكمة والعدالة ما فيه من شرف الإسلام وإرشاد
[ ص: 217 ] أهله إلى أن يكونوا من أهل هذه المرتبة التي تلي مرتبة النبوة
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب [ 2 : 269 ] .
وقوله :
فبشرهم بعذاب أليم يحملون مثله على التهكم ، وعدوه من المجاز بالاستعارة على ما في مفردات
الراغب ; لأن التبشير من البشارة والبشرى وهي الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه . وقد يقال : إنه ما ظهر أثره في البشرة بانبساط أو انقباض وكآبة ، ولكنه غلب في الأول ، وهذا العذاب يصيب من كان منهم في زمن البعثة في الدنيا ثم يشاركون من سبقهم بمثل ذنوبهم في عذاب الآخرة ، وأي الناس أحق بالعذاب الأليم من هؤلاء القساة الطغاة المسرفين في الشر إسرافا جعلهم على منتهى البعد عن النبيين والآمرين بالقسط حتى كان منهم الذين قتلوهم بالفعل ، ومنهم الذين نفوسهم كنفوس من قتلوا وما يمنعهم عن الفعل إلا العجز
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك [ 8 : 30 ] فهذه النفوس قد أحاطت بها خطاياها حتى لم يبق فيها منفذ لنور آيات الله التي بها يبصر الحق ويهتدي إلى إقامة القسط ; ولذلك قال فيهم :
أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة فلا ينتفعون بشيء منه ، لأن العمل الصالح إنما ينفع بحسن أثره في النفس ، ونفوس هؤلاء قد أوغل فيها الفساد - كما تقدم - ففقدت الاستعداد والقبول لكل خير ، وقد تقدم مثل هذه الجملة بالتفصيل في سورة البقرة ( 2 : 217 )
وما لهم من ناصرين ينصرونهم من الله وقد أبسلتهم ذنوبهم بما لها من التأثير في إفساد نفوسهم ، فأي ناصر يدفع عنهم العذاب وهو مما اقتضته طبيعتهم ؟