قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب [ ص: 222 ] روي عن
قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته فنزل قوله - تعالى - : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وقال الأستاذ الإمام ما معناه : إن الكلام متصل بما قبله - صح ما قيل في سبب النزول أم لم يصح - والكلام في حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع من خوطبوا بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب ، فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، كما أنكر أمثالهم على الأنبياء قبله ، وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل ، وقد عهد في غير موضع من القرآن تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقام بيان عناد المنكرين ومكابرة الجاحدين وتذكيره بقدرته - تعالى - على نصره وإعلاء كلمة دينه ، فهذه الآية من هذا القبيل كأنه يقول له : إذا تولى هؤلاء الجاحدون عن بيانك ولم ينظروا في برهانك وظل المشركون منهم على جهلهم وأهل الكتاب في غرورهم فعليك أن تلجأ إلى الله - تعالى - وترجع إليه بالدعاء والثناء ، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء ، وهذا يناسب ما تقدم في الرد على
نصارى نجران من أمره بالالتجاء إليه - سبحانه - بقوله :
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله .
قال : وعلى هذا التفسير يصح أن يكون الملك بمعنى النبوة أو لازمها ، ولا شك أن النبوة ملك كبير لأن سلطانها على الأجساد والأرواح على الظاهر والباطن ، قال - تعالى - :
فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما [ 4 : 54 ] فإن لم يكن هذا الملك عين النبوة فهو لازمها ، ونزع الملك على هذا القول عبارة عن نزعه من الأمة التي كان يبعث فيها الأنبياء كأمة إسرائيل فقد نزعت منها النبوة ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويمكن أن يفسر النزع هنا بالحرمان ; فإنه - تعالى - يعطي النبوة من يشاء ويحرم منها من يشاء ، فإن قيل : إن النزع إنما يكون لشيء قد وجد ، صح أن يجاب عنه بأن هذا على حد قوله - تعالى - حكاية عن لسان الرسل :
قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها [ 7 : 89 ] فإنهم لم يكونوا في ملتهم ، إذ يستحيل الكفر على الأنبياء - هذا سياقه - وقد تبع فيه
الإمام الرازي إلا أنه زاد عليه كلمة " أو لازمها " والتمثيل غير ظاهر على المعنى الثاني ، والآية حكاية عن
شعيب - عليه السلام - وهي جواب عن قول قومه :
لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا [ 7 : 88 ] فهم قد طلبوا منه وممن آمن معه أن يعودوا في ملتهم وكان أولئك المؤمنون في ملتهم ، ففي جوابه - عليه السلام - تغليب للأكثر وهو متعين .
ومثل
الرازي أيضا بقوله - تعالى - :
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور [ 2 : 257 ] وفيه ما فيه .
أقول : والظاهر المتبادر أن المراد بالملك السلطة والتصرف في الأمور ، والله - سبحانه
[ ص: 223 ] وتعالى - صاحب السلطان الأعلى والتصرف المطلق في تدبير الأمر وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات ، فهو يؤتي الملك في بعض البلاد من يشاء من عباده ، إما بالتبع لما يختصهم به من النبوة كما وقع لآل
إبراهيم ، وإما بسيرهم على سننه الحكيمة الموصلة إلى ذلك بأسبابه الاجتماعية كتكوين العصبيات كما وقع لكثير من الناس ، وينزعه ممن يشاء من الأفراد ومن الأسر والعشائر والفصائل والشعوب بتنكبهم سننه الحافظة للملك ، كالعدل وحسن السياسة وإعداد المستطاع من القوة كما نزعه من
بني إسرائيل ومن غيرهم بالظلم والفساد ، ذلك أننا لا نعرف ما قضت به مشيئته - عز وجل - إلا من الواقع ; لأنه لا يقع في الوجود إلا ما يشاء ، وقد نظرنا فيما وقع للغابرين والحاضرين ومحصنا أسبابه فألفيناها ترجع إلى سنن مطردة كما قال في هذه السورة :
قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا [ 3 : 137 ] الآية . وبين بعض هذه السنن في نزع الملك ممن يشاء وإيتائه من يشاء بمثل قوله - تعالى - من سورة إبراهيم :
وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 : 13 ، 14 ] وقد فصلنا هذا المعنى في سورة البقرة أفضل تفصيل فليراجع الآية ( 247 ) من شاء ، وبهذا يظهر وجه اتصال الآية بما قبلها وكونها بمثابة الدليل لقوله السابق :
قل للذين كفروا ستغلبون فهي تتضمن تأكيد الوعد بنصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغلب أعدائه من أهل الكتاب والمشركين .
وقد قال
أبو سفيان للعباس يوم رأى جيش المسلمين زاحفا إلى
مكة : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما ، فقال
العباس - رضي الله عنه - : كلا إنها النبوة ، وكان
أبو سفيان يعني أن الأمر كله تأسيس ملك وما كان الملك مقصودا ، ولكنه جاء معناه ، والمراد منه تابعا لا أصلا ، والفرق عظيم ، والغرض من النبوة غير الغرض من الملك ; ولذلك لم يسم الصحابة من جعلوه رئيس ملكهم ومرجع سياستهم ملكا ، بل سموه خليفة .
وتعز من تشاء وتذل من تشاء العز والذل معروفان ، ومن آثار الأول : حماية الحقيقة ونفاذ الكلمة ، ومن أسبابه كثرة الأعوان وملك القلوب بالجاه والعلم النافع للناس وسعة الرزق مع التوفيق للإحسان ، ومن آثار الثاني : الضعف عن الحماية ، والرضى بالضيم والمهانة - كذا قال الأستاذ الإمام - وقد يكون الضعف سببا وعلة للذل لا أثرا معلولا وهو غالب ، ولا تلازم بين العز والملك ، فقد يكون الملك ذليلا إذا ضعف استقلاله بسوء السياسة وفساد التدبير ، حتى صارت الدول الأخرى تفتات عليه كما هو مشاهد ، وكم من ذليل في مظهر عزيز ، وكم من أمير أو ملك يغر الأغرار ما يرونه فيه من الأبهة والفخفخة فيحسبون أنه عزيز كريم وهو في نفسه ذليل مهين ، فمثله كمثل ملوك ملاهي التمثيل ( التياترات ) والتشبيه للأستاذ الإمام .
[ ص: 224 ] هذا ولا عز أعلى من عز الاجتماع والتعاون على نشر دعوة الحق ومقاومة الباطل إذا اتبع المجتمعون سنة الله - تعالى - فأعدوا لكل أمر عدته ، وقد
كان المشركون في مكة واليهود ومنافقو العرب في المدينة يعتزون بكثرتهم على النبي والمؤمنين يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون [ 63 : 8 ] فعسى أن يعتبر المسلمون في هذا الزمان بهذا ويفقهوا معنى كون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ويحاسبوا أنفسهم وينصفوا منها ليعلموا مكانهم من الإيمان الذي حكم الله لصاحبه بالعزة
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 : 24 ] .