(
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون )
هاهنا إشارتان ، والمشار إليه عند الجمهور واحد ، وهو ما في الآيتين السابقتين من المؤمنين من غير أهل الكتاب والمؤمنين منهم ، وكرر الإشارة للإعلام بأنه لا بد من تحقق الوصفين لتحقق الحكم بأنهم على هدى وأنهم هم المفلحون ، كذا قال بعضهم وهو تكلف ظاهر ، وكذا قولهم : إن تنكير ( هدى ) هنا للتعظيم . وشيخنا قد جعل الإشارتين لنوعي المؤمنين المذكورين في الآية السابقة بأسلوب اللف والنشر المرتب .
قال : إن الإشارة الأولى:
قال : (
أولئك على هدى من ربهم ) في هذه الآية للفرقة الأولى : وهم الذين ينتظرون
[ ص: 115 ] الحق ، لأنهم على شيء منه - كما يدل عليه تنكير ( هدى ) الدال على النوع - وينتظرون بيانا من الله تعالى ليأخذوا به ، ولذلك تقبلوه عندما جاءهم ، فقد أشعر الله قلوبهم الهداية بما آمنوا به من الغيب ، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذي سبق ، وأنفقوا مما رزقهم الله .
وأما الفرقة الثانية : وهم المؤمنون بما جاء به
محمد - صلى الله عليه وسلم - فعلى هدى تشرك فيه تلك الفرقة الأولى ، لكن على وجه أكمل ؛ لأنها مؤمنة بالقرآن وعاملة به ، وقوله (
على هدى ) تعبير يفيد التمكن من الشيء كتمكن المستقر عليه ، كقولهم : " ركب هواه " ولقد كان أفراد تلك الفرقة ( أي الأولى ) على بصيرة وتمكن من نوع الهدى الذي كانوا عليه ، فإن كان هذا غير كاف لإسعادهم وفلاحهم ، فهو كاف لإعدادهم وتأهيلهم لهما بالإيمان التفصيلي المنزل ، ولذلك قبلوه عندما بلغتهم دعوته .
وإلى الفرقة الثانية وقعت الإشارة الثانية :
(
وأولئك هم المفلحون ) كما هو ظاهر ، وهم المفلحون بالفعل لاتصافهم بالإيمان الكامل بالقرآن ، وبما تقدمه من الكتب السماوية واليقين بالآخرة - لا مطلق الإيمان بالغيب إجمالا - ويرشد إلى التغاير بين مرجع الإشارتين ترك ضمير الفصل ( هم ) في الأولى وذكره في الثانية ، ولو كان المشار إليه واحدا لذكر الفصل في الأولى ؛ لأن المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح التام ، فهو خاص بهم دون سواهم ، لكنه اكتفى عن التنصيص على تمكنهم من الهدى بحصر الفلاح فيهم ، ومادة الفلح تفيد في الأصل معنى الشق والقطع ، ومثلها مادة الفلج بالجيم والفلخ بالخاء والفلذ والفلع والفلغ والفلق و الفل والفلم ، ويطلق الفلاح والفلج على الفوز بالمطلوب ، ولكن لا يقال : أفلح الرجل إذا فاز بمرغوبه عفوا من غير تعب ولا معاناة ، بل لا بد في تحقيق المعنى اللغوي لهذه المادة من السعي إلى الرغيبة والاجتهاد لإدراكها ، فهؤلاء ما كانوا مفلحين إلا بالإيمان بما أنزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله ، وباتباع هذا الإيمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي التي نيط بها الوعد والوعيد فيما أنزل إليه - صلى الله عليه وسلم - مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك في الآخرة ، ويدخل في هذا كله ترك الكذب والزور وتزكية النفس من سائر الرذائل كالشر والطمع والجبن والهلع والبخل والجور والقسوة ، وما ينشأ عن هذه الصفات من الأفعال الذميمة ، وارتكاب الفواحش والمنكرات والانغماس في ضروب اللذات ، كما يدخل فيه الفضائل التي هي أضداد هذه الرذائل المتروكة ، وجميع ما سماه القرآن عملا صالحا من العبادات وحسن المعاملة مع الناس ( والسعي في توفير منافعهم العامة والخاصة مع التزام العدل والوقوف عند ما حده الشرع القويم ، والاستقامة على صراطه المستقيم ) .
[ ص: 116 ] وجملة القول أن
الإيمان بما أنزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : هو الإيمان بالدين الإسلامي جملة وتفصيلا ، فما علم من ذلك بالضرورة ولم يخالف فيه مخالف يعتد به ، فلا يسع أحدا جهله ، فالإيمان به إيمان ، والإسلام لله به إسلام ، وإنكاره خروج من الإسلام ، وهو الذي يجب أن يكون معقد الارتباط الإسلامي وواسطة الوحدة الإسلامية ، وما كان دون ذلك في الثبوت ودرجة العلم فموكول إلى اجتهاد المجتهدين ، ولا يصح أن يكون شيء من ذلك مثار اختلاف في الدين . زاد الأستاذ هنا بخطه عند قولنا : اجتهاد المجتهدين ما نصه :
( أو ذوق العارفين أو ثقة الناقلين بمن نقلوا عنه ليكون معتمدهم فيما يعتقدون بعد التحري والتمحيص ، وليس لهؤلاء أن يلزموا غيرهم ما ثبت عندهم ، فإن ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به لا يمكن لغيره أن يشعر بها حتى يكون له مع المنقول عنه في الحال مثل ما للناقل معه ، فلا بد أن يكون عارفا بأحواله وأخلاقه ودخائل نفسه ، ونحو ذلك مما يطول شرحه ، وتحصل الثقة للنفس بما يقول القائل ) .
وأقول : معنى هذا أن بعض
أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها ، ولا تكون حجة على غيره يلزمه العمل بها ، ولذلك لم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ، ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة ، كصحيفة علي - كرم الله وجهه - المشتملة على بعض الأحكام : كالدية ، وفكاك الأسير ، وتحريم
المدينة كمكة ، ولم يرض الإمام
مالك من الخليفتين :
المنصور ،
والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتى ( الموطأ ) ، وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها : رواية ، ودلالة ، وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشيء منها أن يأخذه عنه ، ولكن لا يجعل ذلك تشريعا عاما ، وأما ذوق العارفين ، فلا يدخل شيء منه في الدين ، ولا يعد حجة شرعية بالإجماع ، إلا ما كان من استفتاء القلب في الشبهات ، والاحتياط في تعارض البينات .