قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [ ص: 234 ] قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فإن ما جئت به من عنده مبين لصفاته وأوامره ونواهيه ، والمحب حريص على معرفة ما يأمر به وينهى عنه ; ليتقرب إليه بمعرفة قدره وامتثال أمره مع اجتناب نهيه ، ويكون بذلك أهلا لمحبته - سبحانه - ومستحقا لأن يغفر له ذنوبه .
قيل : إن الآية نزلت كالجواب لقوم ادعوا أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم يحبون ربهم ، وما من أحد يؤمن بالله ولو بطريق التقليد والاتباع لغيره إلا وهو يدعي حبه . وقيل : إنها نزلت ليخاطب بها
نصارى نجران الذين ادعوا - كما يدعي أهل ملتهم - أنهم أبناء الله وأحباؤه . نعم إن أوائل هذه السورة نزلت إذ كان وفد
نجران في
المدينة ، ويصح أن تكون مما يحتج به عليهم ، ولكن الخطاب فيها عام وحجة على أهل الدعوى في كل زمان ومكان ، وما قيمة الدعوى يكذبها العمل ، وكيف يجتمع الحب مع الجهل بالمحبوب وعدم العناية بأمره ونهيه ؟
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
ويغفر لكم ذنوبكم السابقة من الاعتقاد الباطل والأعمال السيئة ; لأن هذا الاتباع هو الاعتقاد الحق والعمل الصالح ، وهما يمحوان من النفس ظلمة الباطل ، ويزيلان منها آثار المعاصي والرذائل وهذا هو عين المغفرة ، فالمغفرة أثر فطري للإيمان والعمل الصالح بعد ترك الذنوب كما أن العقاب أثر طبيعي للكفر والمعاصي .
والله غفور رحيم جعل للمغفرة سنة عادلة وبينها برحمته وإحسانه لعباده ; وهي تزكية النفس بالاتباع الذي أكد الأمر به ، وبين أن عاقبة الإعراض عنه الحرمان من حب الله - تعالى - ، فقال :
قل أطيعوا الله باتباع كتابه والرسول باتباع سنته والاهتداء بهديه
فإن تولوا وأعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورا منهم بدعواهم أنهم محبون لله وأنهم أبناؤه وأحباؤه
فإن الله لا يحب الكافرين الذين تصرفهم أهواؤهم عن النظر الصحيح في آيات الله وما أنزله على رسوله ، وترك الشرك والضلال الذي نهيت عنه واتباع الحق في الاعتقاد الذي بينته ، والعمل الصالح الذي أرشدت إليه . هؤلاء هم الكافرون وإن ادعوا أنهم مؤمنون وأنهم يحبون الله والله يحبهم .
هذا ما نراه كافيا في فهم الآيات ، وليس عندنا فيها عن الأستاذ الإمام شيء . وإن من الباحثين من يخفى عليه معنى حب الله للناس وحبهم إياه . فنوضح ذلك بعض الإيضاح : حب الناس لله يجهله من يعيش كما تعيش الديدان والبهائم لا يشغله إلا هم قبقبه وذبذبه ، ويعرفه الحكماء الربانيون والمؤمنون الصالحون ، ويمكن تقريبه من فهم الجاهل المستعد للعلم وتشويقه إليه بإرشاده إلى مراجعة فطرته ، والبحث في أسباب حب الناس لكثير من الأشياء التي لا يحبها حيوان آخر .
يجد كل حي من الأحياء ميلا من نفسه إلى ما به كمال فطرته على حسب استعدادها .
[ ص: 235 ] فالأنعام التي ينحصر استعدادها فيما به حفظ وجودها الشخصي والنوعي لا تميل إلا إلى الغذاء لحفظ الأول والنزوان لحفظ الثاني ، وأما الإنسان فله استعداد لا يعرف له حد ولا نهاية وميله أو حبه ليس له حد ولا نهاية أيضا ، وإنما تقف الأمراض الروحية ببعض أفراده أو جمعياته عند حدود معينة لفساد في التربية ومرض في مزاج الاجتماع ، وهذا الاستعداد وما يتبعه أنصع الدلائل عند العالمين بنظام الأكوان على أن الإنسان خلق للبقاء لا للفناء وأن له حياة أخرى ينال بها كل ما خلق مستعدا له من العرفان ، وأعلاه الكمال في معرفة الله .
يحب الإنسان جمال الطبيعة ، ويطربه خرير المياه وحفيف الرياح ، وتغريد الأطيار على أفنان الأشجار ، فيبذل المال الكثير لإنشاء الحدائق والجنات واجتلاب ما لم يوجد في بلاده من أنواع الطير والنبات ، يعشق جمال الصنعة فينفق القناطير من الذهب والفضة في اقتناء الصور البديعة والنقوش الدقيقة ، يهوى الوقوف على مجاهل الأرض والاطلاع على أحوال العالمين فيركب الأخطار ويقتحم البحار ، ويسمح بالوقت والدينار يهيم بالرياسة فيستهين لأجلها باللذات ويزدري الشهوات وينافح في سبيلها الأقران ، ويكافح في طلبها السلطان ، يفتتن بحب أهل النجدة والشجاعة وقواد الجيوش فيبذل حياته لحفظ حياتهم ويتحمس في التحزب لهم بعد مماتهم ، يولع بكبار العلماء فيتخذهم أئمة متبعين وإن حرم في اتباعهم من حقيقة العلم والدين ، ويتعصب لهم على من خالفهم ، وإن كان الحق يؤيده من دونهم - يهيم بالمعقولات السامية ، والحكمة العالية ، فيحتقر دونها المال والحياة والرياسة والإمارة ، وينزوي في كسر بيته يعمل الفكر ، ويروض النفس ، ويصقل الروح معتقدا أن من سار سيرته فهو المغبوط ، وأن الغافل عن ذلك هو المغبون
كل حزب بما لديهم فرحون [ 23 : 53 ]
ألا إن استعداد الإنسان أعلى من كل ذلك ; فهو لا يقف عند حد اكتشاف المجهولات ، ومعرفة ما في الأرض والسماوات ، ومجالدة جليد القطب الشمالي . ومواثبة أسود
أفريقية وأفاعي الهند ، ومناصبة أمواج القاموس الأعظم ، ومراقبة نجوم السماء في الليالي الليلاء ، بل هو يبحث عن الماضي ليتعرف مبدأ الخلق والتكوين ، ويبحث عن المستقبل ليعلم الغاية والمصير ، بل هو يبحث عن حقيقة الخالق البارئ قبل أن يعرف شيئا من حقائق المخلوقات ، وقبل أن يعرف نفسه واستعدادها وغرضها من بحثها واستقصائها ، ترى هذا الإنسان الذي يحب هذه الأشياء التي لا تتناهى ; لأنه خلق مستعدا لمعرفة لا تتناهى ، قد يهيم حبا في بعضها حتى يشغله عن سائرها ، وكلما كان موضوع حبه أعلى كان هو في نفسه أرقى وأسمى ، ومنتهى الرقي والسمو أن يحب في كل شيء معنى الجمال المودع في كل شيء ، وهو الإبداع الإلهي والنظام الرباني فلا تحجبه المباني عن المعاني ، ولا تشغله الأشباح عن الأرواح ، فيلاحظ في كل جميل أحبه منشأ جماله ، وفي كل كامل أجله مصدر كماله ، وفي كل بديع مال إليه
[ ص: 236 ] علة إبداعه ، وفي كل مخترع أعجب به الحكمة العامة في الإقدار على اختراعه :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب
فهذا هو
حب الله - عز وجل - ; حبه في كل محبوب لمشاهدة جماله في كل جميل ، ورؤية إبداعه في كل بديع ، ومعرفة كماله في كل كامل ; لأنه مصدر كل شيء
الذي أحسن كل شيء خلقه [ 32 : 7 ]
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم [ 57 : 3 ] وأما حبه - تبارك اسمه وتعالى جده - لعباده الذين يحبونه ويتبعون رسوله الذي هداهم إلى معرفته ، ودلهم على سبيل حبه وعبادته ، فهو شأن من شئونه الإلهية في عباده لا يعرفه إلا من ذاقه ، وعرف وصل الحبيب وفراقه ، وصار مظهرا من مظاهر حكمته ، ومجلى من مجالي إبداعه ، ومصدرا من مصادر الخير في عباده ، وروحا من أرواح النظام في خلقه ، وإنما يكون كذلك إذا تخلق بأخلاق الله ، وتحقق بأسمائه وصفاته - جل علاه - ، حتى صار في نفسه من خلفاء الله ، كما أرشده كتاب الله ، ولا يمكن الإفصاح عن هذا المقام ; لأنه يعرف بالذوق لا بالكلام ، وإنما يذوقه من أحب الله ، وعرف كيف يعامل من أحبه واصطفاه ، فاعمل لذلك لتعرف ما هنالك .
تحبب فإن الحب داعية الحب وكم من بعيد الدار مستوجب القرب