إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب .
[ ص: 237 ] أقول : لما بين - سبحانه - وتعالى أن محبته منوطة باتباع الرسول ، فمن اتبعه كان صادقا في دعوى حبه لله ، وجديرا بأن يكون محبوبا منه - جل علاه - ، أتبع ذلك ذكر من أحبهم واصطفاهم ، وجعل منهم الرسل الذين يبينون طريق محبته ، وهي الإيمان به مع طاعته ، فقال :
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين أي اختارهم وجعلهم صفوة العالمين وخيارهم بجعل النبوة والرسالة فيهم ،
فآدم أول البشر ارتقاء إلى هذه المرتبة فإنه بعدما تنقل في الأطوار إلى مرتبة التوبة والإنابة اصطفاه - تعالى - واجتباه كما قال في سورة طه :
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 : 122 ] فكان هاديا مهديا ، وكان في ذريته من النبيين والمرسلين من شاء الله - تعالى - ، وأما
نوح - عليه السلام - فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض ونجا هو وأهله في الفلك ، فكان بذلك أبا ثانيا للجم الغفير من البشر ، وكان هو نبيا مرسلا وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين ، ثم تفرقت ذريته وانتشرت وفشت فيهم الوثنية حتى ظهر فيهم
إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - نبيا مرسلا وخليلا مصطفى ، وتتابع النبيون والمرسلون من آله وذريته ، وكان أرفعهم قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران قبل أن تختم النبوة بولد
إسماعيل - عليهم الصلاة والسلام - .
ذرية بعضها من بعض قيل : إن الذرية من مادة ذرأ المهموزة ; أي خلق ، كما أن البرية من مادة برأ ، وقيل : من مادة ذرو ، فأصلها ذروية ، وقيل : هي من الذر وأصلها فعلية كقمرية . قال
الراغب : والذرية أصلها الصغار من الأولاد ، وإن كان قد يقع على الصغار والكبار معا في التعارف ، ويستعمل للواحد والجمع ، وأصله الجمع . وقال الأستاذ الإمام : يقال : إن لفظ الذرية قد يطلق على الوالدين والأولاد خلافا لعرف الفقهاء وهو قليل ، والمشهور ما جرى عليه الفقهاء وهو أن الذرية الأولاد فقط ، فقوله :
بعضها من بعض ظاهر على الأول ، ويخص على الثاني
بآل إبراهيم وآل عمران ، ويصح أن يكون بمعنى أنهم أشباه وأمثال في الخيرية والفضيلة التي هي أصل اصطفائهم على حد قوله - تعالى - :
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض [ 9 : 67 ] وهو استعمال معروف . أقول : وهؤلاء الذين يشبه بعضهم بعضا من هذه الذرية هم الأنبياء والرسل ، قال - تعالى - في سياق الكلام على إبراهيم :
ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [ 6 : 84 - 87 ]
والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم أي إنه سبحانه وتعالى كان سميعا لقول
امرأة [ ص: 238 ] عمران ، عليما بنيتها في وقت مناجاتها إياه - وهي حامل - بنذر ما في بطنها له حال كونه محررا ، أي معتقا من رق الأغيار لعبادته - سبحانه وتعالى - وخدمة بيته ، أو مخلصا لهذه العبادة والخدمة لا يشتغل بشيء آخر ، وثنائها عليه - تعالى - عند هذه المناجاة بأنه السميع للدعاء ، العليم بما في أنفس الداعين والداعيات .
قال الأستاذ الإمام : ورد ذكر
عمران في هذه الآيات مرتين ، فبعضهم يقول : إنهما واحد وهو
أبو مريم ، ويستدل على ذلك بورودهما في سياق واحد ، وأكثرهم يقول : إن الأول
أبو موسى ( عليه السلام ) والثاني
أبو مريم ( عليها الرضوان ) وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة تقريبا ، وذكر تفصيل ذلك على ما هو معروف عند
اليهود . وقال :
والمسيحيون لا يعترفون بأن أبا مريم يدعى عمران ولا ضير في ذلك ; فإنه لا يلزم أن تكون كل حقيقة معروفة عندهم ، وليس لهم سند لنسب المسيح يحتج به ، فهو كسلسلة الطريق عند المتصوفة يزعمون أنها متصلة بعلي أو بالصديق وليس لهم في ذلك سند متصل يحتج بمثله . وأقول : إن نسب المسيح في إنجيلي متى ولوقا مختل ، ولو كتب عن علم لما وقع فيه الخلاف .