واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا يشير إلى ما كان عليه المؤمنون في عصر التنزيل من أخوة الإيمان التي بها قاسم
الأنصار المهاجرين [ ص: 19 ] أموالهم وديارهم ، وبها كان يؤثر بعضهم بعضا بالشيء على نفسه وهو في خصاصة وحاجة شديدة إلى ذلك الشيء ، بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة والبغضاء وتسافك الدماء ما هو معروف في جملته للجماهير ، وفي تفاصيله الغريبة للمطلعين على أخبارهم المروية والمدونة ، ومنها أن الحروب تطاولت بين
الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الإسلام ، وألف الله بين قلوبهم برسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا بعض ما أفادهم الإسلام في حياتهم الدنيا ، وقد أنقذهم فيما يستقبلون من أمر الآخرة مما هو شر وأدهى وأمر ، وذلك قوله - عز وجل - :
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها أي كنتم كذلك بوثنيتكم وشرككم بالله - تعالى - وما يتبعه من الخرافات والمفاسد التي أطفأت نور الفطرة ، وهبطت بالأرواح إلى درك سافل حتى كانت كأنها على طرف حفرة يوشك أن تنهار بها في النار ، فشفا الحفرة أو البئر : طرفها ، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك ، قال
الراغب : منه أشفى على الهلاك ، أي حصل على شفاه . وليس بين المشرك وبين الهلاك في النار إلا الموت ، والموت أقرب غائب ينتظر ، فما أعظم منة الله - تعالى - على المؤمنين الصادقين ولا سيما الأولين الذين خوطبوا بهذه الآية أولا : أن أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه وشقائه ، وألف بينهم حتى صاروا بهذه الألفة أسعد الناس ، ثم صاروا سادات الأرض ، وأنقذهم بذلك من النار فكانوا به سعداء الدارين والفائزين بالحسنيين . أفليس أول واجب من شكر هذه النعمة التي لا تفضلها نعمة أن يعرضوا عن وساوس ودسائس أولئك المغرورين بسلفهم من الأنبياء وهم ليسوا على شيء من هدايتهم ؟ بلى ، فقد وضح الحق وبطل الإفك .
قال الأستاذ الإمام : انظر آية الله ، قوم متخالفون بين العداوات والإحن ، يتربص كل واحد بالآخر الهلكة على يده ، فيأتي الله بهذه الهداية فيجمعهم ويزيل كل ما في نفوسهم من التنافر ويجعلهم إخوانا ترجع أهواؤهم كلها إلى شيء واحد لا يختلفون فيه ، وهو حكم الله ; ولذلك قال :
كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون أي ليعدكم ويؤهلكم بها للاهتداء الدائم المستمر فلا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان .
ثم قال : التفرق والاختلاف قسمان : قسم لا يمكن أن يسلم منه البشر ، فالنهي عنه من قبيل تكليف ما لا يستطاع ، وليس بمراد في الآيات ، وقسم يمكن الاحتراس منه وهو المراد بها .
أما الأول : فهو الخلاف في الفهم والرأي ، ولا مفر منه لأنه مما فطر عليه البشر ، كما قال - تعالى - :
ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ 11 : 118 ، 119 ] فاستواء الناس
[ ص: 20 ] في العقول والأفهام مما لا سبيل إليه ولا مطمع فيه ، إذ هو من قبيل الحب والبغض ، فالإخوة الأشقاء في البيت الواحد تختلف أفهامهم في الشيء كما يختلف حبهم له وميلهم إليه .
وأما الثاني : - وهو ما جاءت الأديان لمحوه - فهو
تحكيم الأهواء في الدين والأحكام ، وهو أشد الأشياء ضررا في البشر ; لأنه يطمس أعلام الهداية التي يلجأ إليها في إزالة المضار التي في النوع الأول من الخلاف .
أما كون القسم الأول غير ضار فهو ما يعرفه كل أحد من نفسه ، ذكر ذلك الأستاذ الإمام وضرب له المثل بنفسه ، فقال ما مثاله : إن بيني وبين بعض أصحابي الصادقين في محبتي وإرادة الخير لي خلافا في إلقاء هذا الدرس هنا ، فأنا أعتقد أن إلقاء درس التفسير في
الأزهر عمل واجب علي وخير لي ، ولا أشك في هذا كما أنني لا أشك في هذا الضوء الذي أمامي ، ويوجد من أصحابي من يعتقد أن ترك هذا الدرس خير لي من قراءته ، ويحاجوني في ذلك قائلين : إن تأخري لأجل الدرس إلى الليل ضار بصحتي وإنه مثير لحسد الحاسدين لي ، ودافع لهم إلى الكيد والإيذاء ، وأن الدرس نفسه عقيم ; لأن أكثر الذين يسمعونه لا يفقهون ما أقول ولا يفهمون ، ومن فهم لا يرجى أن يعمل به لغلبة فساد الأخلاق ، هذه حجة بعض أصحابي في مخالفة رأيي واعتقادي يصرحون لي بها ، ومع ذلك ألقاهم ويلقونني لم ينقص ذلك من مودتنا شيئا ، فضلا عن أن يكون مثارا للعداوة والبغضاء بيننا ، فأنا أعذرهم في رأيهم مع اعتقادي بإخلاصهم ، وهم يعذرونني كذلك ، ولنفرض أن الخلاف بيننا في مسألة دينية كأن أعتقد أنا أن فعل كذا حرام وهم يعتقدون حله ، أكان يكون بيننا تفرق لأجله ؟ كلا لا ريب عندي ، إنه لا فرق بين الخلافين وإننا نبقى على هذا الخلاف أصدقاء .
ثم قال ما مثاله مبسوطا : كذلك كان
الخلاف بين علماء السلف وأئمة الفقهاء .
فمالك قد نشأ في
المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من حسن الحال وسلامة القلوب ، فقال : إن عمل
أهل المدينة أصل من أصولي ; لأنهم على حسن حالهم وقرب عهدهم بالنبي وأصحابه لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة عملا . وأما
أبو حنيفة فنشأ في
العراق وأهلها - كما اشتهر عنهم - أهل شقاق ونفاق ، فهو معذور إذ لم يحتج بعملهم ولا بعمل غيرهم قياسا عليهم ، ولو اجتمعا لعذر كل منهما الآخر ; لأنه بذل جهده في استبانة الحق مع الإخلاص لله - تعالى - ، وإرادة الخير والطاعة ، وقد نقل عن الأئمة أن كل واحد كان يعذر الآخرين فيما خالفوه فيه ، ولكن تنكب هذه الطريقة طوائف جاءت بعدهم تقلدهم فيما نقل من مذاهبهم لا في سيرتهم ، حتى صار الهوى هو الحاكم في الدين ، وصار المسلمون شيعا ، يتعصب كل فريق إلى رأي من مسائل
[ ص: 21 ] الخلاف ، ويعادي الآخر إذا خالفه فيه ، وكان من جراء ذلك ما هو مدون في التاريخ ، وما ذلك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلوب هؤلاء المتعصبين ، وإلا فبالله كيف يصدق أن يكون الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي مثلا مصيبا في كل ما خالف به غيره ؟ وإذا كان الصواب في بعض المسائل الاجتهادية مع غيره ؟ فكيف يعقل أن يمر أكثر من ألف سنة على فقهاء مذهبه ولا يظهر لهم شيء من ذلك فيرجعوا عن قوله إلى ما ظهر لهم أنه الصواب من مذهب غيره
كأبي حنيفة أو
مالك ؟ وهذا ما يقال في أتباع كل مذهب .
هذا النوع من الخلاف هو الذي ذلت به الأمم بعد عزها ، وهوت بعد رفعتها وضعفت بعد قوتها ، هو الافتراق في الدين وذهاب أهله مذاهب تجعلهم شيعا تتحكم فيهم الأهواء كما حصل من الفرق الإسلامية ، لا يكاد أحدهم يعلم أن الآخر خالفه في رأي إلا ويبادر إلى الرد عليه بالتأليف وبذل الجهد في تضليله وتفنيد مذهبه ، ويقابله الآخر بمثل ذلك ، لا يحاول أحد منهم محادثة الآخر والاطلاع على دلائله ووزنها بميزان الإنصاف والعدل ، فالواجب أولا : محاولة الفهم والإفهام في البحث والمذاكرة - أي ولو كتابة - وثانيا : ألا يكون الخلاف مفرقا بين المختلفين في الدين . قال : فما دام المسلم لا يخل بنصوص كتاب الله ولا باحترام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو على إسلامه لا يكفر ولا يخرج من جماعة المسلمين ، فإذا تحكم الهوى فلعن بعضهم بعضا وكفر بعضهم بعضا فقد باء بها من قالها كما ورد في الحديث .
ثم قال : ومثل الاختلاف في الدين الاختلاف في المعاملة ، لا يجوز أن يكون مفرقا بين المؤمنين ، بل يرجعون في النزاع إلى حكم الله وأهل الذكر منهم ; يعني أولي الأمر ، وهم أهل العلم والرأي في مصالح الأمة . فإذا امتثلنا أمر الله ونهيه فاتقينا الخلاف الذي لنا عنه مندوحة ، وحكمنا كتاب الله ومن أمر الله بالرجوع إليهم في مسائل النزاع فيما نتنازع فيه أمنا من غائلة الخلاف ، وكنا من المهتدين .
ويدخل في كلمة المعاملة التي ذكرها الأستاذ الإمام كل ما يتعلق بالمصالح العامة من المسائل السياسية والمدنية ، فالمرجع فيها كلها إلى هدي الكتاب العزيز وسنة الرسول ورأي أولي الأمر ، وقد وسعنا القول في مسائل الخلاف من قبل ، وذكرنا وجه الخروج منه ، فارجع إلى ذلك في تفسير
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ 2 : 253 ] الآية .