يوم تبيض وجوه وتسود وجوه قيل : إن بياض الوجوه وسوادها هنا من باب الحقيقة ، وأن ذلك يكون يوم القيامة خاصة ، واحتج صاحب هذا القول بمثل قوله - تعالى - :
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة [ 39 : 60 ] وقيل - وهو الراجح - إنه من باب الكناية . قال
الراغب في مادة ( بيض ) من مفرداته بعد ذكر الآية " ولما كان البياض أفضل الألوان عندهم كما قيل : البياض أفضل والسواد أهول ، والحمرة أجمل والصفرة أشكل : عبر عن الفضل والكرم بالبياض حتى قيل لمن لم يتدنس بمعاب هو أبيض الوجه ، وقوله - تعالى - :
يوم تبيض وجوه فابيضاض الوجوه عبارة عن المسرة واسودادها عبارة عن الغم وعلى ذلك
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا [ 16 : 58 ] وعلى نحو الابيضاض قوله - تعالى - :
وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة [ 80 : 38 ، 39 ] اهـ .
وقال في مادة ( سود ) : " السواد : اللون المضاد للبياض . يقال اسود واسواد . قال :
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فابيضاض الوجوه عبارة عن المسرة واسودادها عبارة عن المساءة ونحوه
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 16 : 58 ] وحمل بعضهم الابيضاض والاسوداد على المحسوس ، والأول أولى ; لأن ذلك حاصل لهم سودا كانوا في الدنيا أو بيضا ، وعلى ذلك قوله في البياض :
وجوه يومئذ ناضرة [ 75 : 22 ] وقوله في السواد :
ووجوه يومئذ باسرة [ 75 : 24 ]
ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة [ 80 : 40 ، 41 ] وقال :
وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما [ 10 : 27 ] وعلى هذا النحو ما روي "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003168أن المؤمنين يحشرون غرا محجلين من آثار الوضوء " اهـ .
[ ص: 43 ] وأورد
الرازي في تأييد هذا الاستعمال الشائع شعرا لبعضهم في الشيب :
يا بياض القرون سودت وجهي عند بيض الوجوه سود القرون فلعمري لأخفينك جهدي
عن عياني وعن عيان العيون بسواد فيه بياض لوجهي
وسواد لوجهك الملعون
أقول : ولا يزال هذا الاستعمال شائعا عند كل ناطق بالضاد ولا سيما وصف الكاذب بسواد الوجه ( فتعجبوا لسواد وجه الكاذب ) هذا هو الراجح في تفسير الآية وفاقا
للراغب ولأبي مسلم ،
والمختار عند الأستاذ الإمام ; إذ حمل العذاب في الآية على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جميعا . ويدل على ما يكون في الآخرة الآيات التي ذكرناها آنفا في بحث استعمال السواد والبياض في المعاني ; إذ فيها التصريح بذكر ذلك اليوم ، وأما ما يكون في الدنيا فقد قال الأستاذ الإمام في بيانه ما مثاله :
أما المتفقون الذين جمعوا عزائمهم وإرادتهم على العمل بما فيه مصلحة أمتهم وملتهم ، واعتصموا واتفقوا على الأعمال النافعة التي فيها عزتهم وشرفهم ، وأصبح كل واحد منهم عونا للآخر ووليا له فأولئك تبيض وجوههم - أي تنبسط وتتلألأ بهجة وسرورا - عند ظهور أثر الاتفاق والاعتصام ونتائجهما ، وهي السلطة والعزة والشرف وارتفاع المكانة وسعة السلطان . وهذا الأثر ظاهر في الأمم المتفقة المتحدة التي يتألم مجموعها إذا أهين واحد منها في قطر من أقطار الأرض بعيد أو قريب ، وتجيش جميعها مطالبة بنصره والانتقام له ; لأنه ظلم وأهين ولا يصح عندها أن يكون منها ثم يظلم أو يهان وتكون هي راضية ناعمة البال ، أولئك الأقوام ترى على وجوههم لألاء العزة وتألق البشر بالشرف والرفعة وهو ما يعبر عنه ببياض الوجه ، وأما المختلفون لافتراقهم في المقاصد ، وتباينهم في المذاهب والمشارب ، الذين لا يتناصرون ولا يتعاضدون ولا يهتم أفرادهم بالمصلحة العامة التي فيها شرف الملة وعزة الأمة فهم الذين تسود وجوههم بالذلة والكآبة يوم تظهر عاقبة تفرقهم واختلافهم بقهر الأجنبي لهم ونزعه السلطة من أيديهم ، والتاريخ شاهد على صدق هذا الجزاء في الماضين ، والمشاهدة أصدق وأقوى حجة في الحاضرين .
فأما الذين اسودت وجوههم فيقال لهم :
أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون قال الأستاذ الإمام : يقال لهم هذا القول في الدنيا وفي الآخرة ، أما في الدنيا فلا بد أن يوجد في الناس من يقول للأمة التي وقع لها ذلك مثل هذا القول ، تغليظا عليها لأن عملها لا يصدر إلا من الكافرين ، وأما في الآخرة فيوبخهم الله بمثل هذا السؤال .
وأقول : يجوز أن يكون المراد بيان الشأن لا الحكاية عن قول لساني وقع بالفعل ، والمعنى أن شأنهم حينئذ أن يقال فيهم أو لهم ذلك القول ، بل هذا هو المتعين عندي ، والكلام
[ ص: 44 ] في الأمم لا في الأفراد ، والكفر في عرف القرآن ليس خاصا بما يعده الفقهاء والمتكلمون كفرا كما بيناه غير مرة - راجع تفسير
والكافرون هم الظالمون [ 2 : 254 ] في أوائل الجزء الثالث . فمن عرفه أن المتفرقين في الدين يعدون من الكفار والمشركين كما قال :
ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون [ 30 : 31 ، 32 ] وقال - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ 6 : 159 ] فمن تذكر هذا لا يتوقف في فهم الآية التي نفسرها ، ولا يجيز لنفسه صرفها عن ظاهرها لأجل مطابقة عرف الفقهاء الذين ترجع مسائل الكفر بعد الإيمان عندهم إلى جحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة وفي معناه كل ما اعتقد المكلف أنه من الدين ثم كذبه ، ولكن القرآن يعد الخروج من مقاصد الدين الحقيقية بالعمل من الكفر ، وقد فهم السلف الصالح من الكتاب والسنة أن
الإيمان اعتقاد وقول وعمل وله شعب كثيرة من أعظمها تحري العدل واجتناب الظلم ( مثلا ) فمن استرسل في الظلم حتى صار صفة له كان كافرا كما قال - تعالى - :
والكافرون هم الظالمون [ 2 : 254 ] فإذا كان الظالمون كافرين في عرفه فكيف لا يكون المتفرقون المختلفون كافرين ، والاعتصام بالوحدة وترك التفرق والاختلاف من أعظم شعبه ، بل ذلك هو أساسه الذي لا يثبت بناؤه إلا عليه ; ولذلك وردت هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها عقب قوله :
ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فإن ما قررته من وجوب الاعتصام والنهي عن التفرق أولا وآخرا ، وإناطة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمة قوية متحدة هو بيان السبيل التي يجب علينا سلوكها لنموت مسلمين .
وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون المراد برحمة الله - تعالى - هنا أثرها من نعمته وإحسانه ، ولا شك أن من ابيضت وجوههم بما تقدم شرحه يكونون خالدين في النعمة بالدنيا ما داموا على تلك الحال والأعمال التي بها ابيضت وجوههم ; لأن الله - تعالى - لا يغير ما بقوم من نعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم فيترتب عليه التغير في الأعمال .
وترتيب الخلود هنا على قوله :
ابيضت وجوههم يؤذن بأن ابيضاض الوجوه وما كان سببا فيه علة له ، والمعلوم يدوم بدوام علته ، وأما أمر الخلود في الآخرة فهو أظهر .