ثم قال مبينا حسدهم وسوء طويتهم :
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها المس في الأصل : كاللمس ، والمراد بـ
تمسسكم هنا تصبكم ، ولعل اختيار لفظ المس في جانب الحسنة والإصابة في جانب السيئة للإشعار بأن أولئك الكافرين يسوءهم ما يصيب المسلمين من خير وإن قل ، بأن كان لا يزيد على ما يمس باليد وإنما يفرحون بالسيئة إذا أصابت المسلمين إصابة يشق احتمالها . هذا ما كان يتبادر إلى فهمي ولكن رأيت صاحب الكشاف يجعلهما هنا بمعنى واحد ويستدل باستعمال القرآن لكل منها في موضع الآخر ، ويقول : إن المس مستعار للإصابة ، ثم خطر لي أن أراجع تفسير (
أبي السعود ) فإذا هو يقول : " وذكر المس مع الحسنة والإصابة مع السيئة للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة الحسنة ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة ، وإما لأن اليأس مستعار لمعنى الإصابة " والأول هو الوجه ، وهو من دقائق البلاغة العليا ، والحسنة : المنفعة سواء كانت حسية
[ ص: 76 ] أو معنوية ، وأعظمها انتشار الإسلام ودخول الناس فيه وانتصار المسلمين على المعتدين عليهم المقاومين لدعوتهم . قال (
قتادة ) في بيان ذلك كما رواه عنه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : " فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وحماية وظهورا على عدوهم غاظهم ذلك وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به ، فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ محلته ، وأبطل حجته وأظهر عورته ; فذلك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة " .
ثم أرشد الله المسلمين إلى ما إن تمسكوا به سلموا من كيدهم الذي يدفعهم إليه الحسد والبغضاء فقال :
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ذهب بعضهم إلى أن المراد : وإن تصبروا على عداوتهم وتتقوا اتخاذهم بطانة وموالاتهم من دون المؤمنين لا يضركم كيدهم لكم هم بمعزل عنكم . وذهب آخرون إلى أن المراد : وإن تصبروا على مشاق التكاليف وامتثال الأوامر عامة وتتقوا ما نهيتم عنه وخطر عليكم - ومنه اتخاذ البطانة منهم - لا يضركم كيدهم . و يضركم بتشديد الراء من الضرر ، وقرأ
ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب " يضركم " بكسر الضاد وسكون الراء المخففة من ضاره يضيره ، والضير بمعنى المضرة . وقال الأستاذ الإمام : إن الصبر يذكر في القرآن في مقام ما يشق على النفس ، وحبس الإنسان سره عن وديده وعشيره ومعامله وقريبه مما يشق عليه ، فإن من لذات النفوس أن تفضي بما في الضمير إلى من تسكن إليه وتأنس به ، فلما نهوا عن اتخاذ بطانة ممن دونهم من خلطائهم وعشرائهم وحلفائهم وعلل بما علل به من بيان بغضائهم وكيدهم حسن أن يذكروا بالصبر على هذا لتكليف الشاق عليهم ، وباتقاء ما يجب اتقاؤه لأجل السلامة من عاقبة كيدهم . ويصح أن يراد بالتقوى : الأخذ بوصاياه وامتثال أمره - تعالى - في البطانة وغيرها .
أقول : ومن الاعتبار في الآية أنه - تعالى - أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكائدين وباتقاء شرهم ولم يأمرهم بمقابلة كيدهم وشرهم بمثله ، وهكذا شأن القرآن لا يأمر إلا بالمحبة والخير والإحسان ودفع السيئة بالحسنة إن أمكن كما قال :
ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ 41 : 34 ] فإن لم يمكن تحويل العدو إلى محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها فإنه يجيز دفع السيئة بمثلها من غير بغي ولا اعتداء ، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في معاملة
بني النضير الذين نزلت الآية فيهم أولا وبالذات ; فإنه حالفهم ووادهم فنكثوهم وخانوا غير مرة : أعانوا عليه
قريشا يوم
بدر وادعوا أنهم نسوا العهد ، ثم أعانوا الأحزاب الذين تحزبوا لإبادة المسلمين ، ثم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ،
[ ص: 77 ] فتعذرت موادتهم واستمالتهم بالمحبة وحسن المعاملة ، فكان اللجأ إلى قتالهم وإجلائهم ضربة لازب .
ثم قال :
إن الله بما يعملون محيط قال الأستاذ الإمام ما مثاله : المحيط بالعمل هو الواقف على دقائقه ، فهو إذا دل على طريق النجاة لعامل من كيد الكائدين والوسيلة للخلاص من ضررهم فإنما يدل على الطريق الموصل للنجاة حتما ، والوسيلة المؤدية إلى النجاح قطعا ، فالكلام كالتعليل لكون الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح . وهناك وجه آخر وهو أن الخطاب بـ " تعملون " عام للمؤمنين والكافرين جميعا - يعني على قراءة
الحسن وأبي حاتم " تعملون " بالمثناة الفوقية أو على الالتفات - ومن كان عالما بعمل فريقين متحادين محيطا بأسباب ما يصدر عن كل منهما ومقدماته ، ونتائجه وغاياته ، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما للآخر ، ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه في حاضرها وآتيها ما يعرفه ذلك المحيط بعمله وعمل من يناهضه ويناصبه ، فهداية الله - تعالى - للمؤمنين خير ما يبلغون به المآرب وينتهون به إلى أحسن العواقب .
وأقول : إن الإحاطة إحاطتان إحاطة علم وإحاطة قدرة ومنع ، وهذا التفسير مبني على أن الإحاطة علم لتعلقها بالعمل ; وذلك من المجاز الذي ورد في التنزيل كقوله - تعالى - :
أحاط بكل شيء علما [ 65 : 12 ] وقوله :
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه [ 10 : 39 ] وأما الإحاطة بالشخص أو بالشيء قدرة فهي تأتي بمعنى منعه مما يراد به وهذا ليس بمراد هنا ، وبمعنى منعه ما يريده ، وبمعنى التمكن منه ، ومنه الإحاطة بالعدو ، أي أخذه من جميع جوانبه بالفعل والتمكن من ذلك ومنه قوله - تعالى - :
وأحاطت به خطيئته [ 2 : 81 ] وقوله :
إن ربي بما تعملون محيط [ 11 : 92 ] وقوله
وظنوا أنهم أحيط بهم [ 10 : 22 ] كل هذا من باب واحد وإن فسر كل قول بما يليق به . فيصح أن يكون منه ما نحن فيه ، والمعنى حينئذ : أن الله قد دلكم يا معشر المؤمنين على ما ينجيكم من كيد عدوكم فعليكم بعد الامتثال أن تعلموا أنه محيط بأعمالهم إحاطة قدرة تمنعهم مما يريدون منكم معونة منه لكم كقوله :
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها [ 48 : 21 ] فعليكم بعد القيام بما يجب عليكم أن تثقوا به وتتوكلوا عليه .
ومن مباحث اللفظ في الآيات : قوله :
ها أنتم أولاء أصله " أنتم هؤلاء " فقدمت أداة التنبيه التي تلحق اسم الإشارة أولاء على الضمير ويقال في المفرد : " ها أنا ذا " وعلى ذلك فقس . وإعرابه : ها للتنبيه وأنتم مبتدأ وأولاء خبره وتحبونهم في موضع النصب على الحال أو خبر بعد خبر ، وجوز بعضهم أن تكون ( أولاء ) اسما موصولا وتحبونهم صلته .