هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة تتخلله : كأنه يقول إن كل إنسان له عقل يعتبر به ، فهو يفهم أن السير في الأرض يدله على تلك السنن ، ولكن المؤمن المتقي أجدر بفهمها لأن كتابه أرشده إليها وأجدر كذلك بالاهتداء والاتعاظ به ، وقد بينا في تفسير الفاتحة أن لسير الناس في الحياة سننا يؤدي بعضها إلى الخير والسعادة وبعضها إلى الهلاك والشقاء وأن من يتبع تلك السنن فلا بد أن ينتهي إلى غايتها سواء كان مؤمنا أو كافرا ، كما قال سيدنا
علي : إن هؤلاء قد انتصروا باجتماعهم على باطلهم وخذلتم بتفرقكم عن حقكم . ومن هذه السنن أن اجتماع الناس وتواصلهم وتعاونهم على طلب مصلحة من مصالحهم يكون - مع الثبات - من أسباب نجاحهم ووصولهم إلى مقصدهم سواء كان ما اجتمعوا عليه حقا أو باطلا ، وإنما يصلون إلى مقصدهم بشيء من الحق والخير ويكون ما عندهم من الباطل قد ثبت باستناده إلى ما معهم من الحق وهو فضيلة الاجتماع والتعاون والثبات ، فالفضائل لها عماد من الحق ، فإذا قام رجل بدعوى باطلة ولكن رأى جمهور من الناس أنه محق يدعو إلى شيء نافع وأنه يجب نصره فاجتمعوا
[ ص: 118 ] عليه ونصروه وثبتوا على ذلك فإنهم ينجون معه بهذه الصفات . ولكن الغالب أن الباطل لا يدوم ، بل لا يستمر زمنا طويلا لأنه ليس له في الواقع ما يؤيده بل له ما يقاومه فيكون صاحبه دائما متزلزلا ، فإذا جاء الحق ووجد أنصارا يجرون على سنة الاجتماع في التعاون والتناصر ، ويؤيدون الداعي إليه بالثبات والتعاون ; فإنه لا يلبث أن يدمغ الباطل وتكون العاقبة لأهله ، فإن شابت حقهم شائبة من الباطل ، أو انحرفوا عن سنن الله في تأييده ، فإن العاقبة تنذرهم بسوء المصير . فالقرآن يهدينا في مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نعرف أنفسنا وكنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا ومن السير على سنن الله في طلبه وفي حفظه ، وأن نعرف كذلك حال خصمنا ، ونضع الميزان بيننا وبينه وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين .
وأقول : إيضاح النكتة في جعل البيان للناس كافة ، والهدى والموعظة للمتقين خاصة هو بيان أن الإرشاد عام ، وأن جريان الأمور على السنن المطردة حجة على جميع الناس مؤمنهم وكافرهم ، تقيهم وفاجرهم ، وهي تدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة على الإسلام إذ قالوا : لو كان
محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا من عند الله لما نيل منه ، فكأنه يقول لهم : إن سنن الله حاكمة على رسله وأنبيائه كما هي حاكمة على سائر خلقه . فما من قائد عسكر يكون في الحالة التي كان عليها المسلمون في
أحد ، ويعمل معه ما عملوا إلا وينال منه ; أي يخالفه جنده ، ويتركون حماية الثغر الذي يؤتون من قبله ، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم وما يعبر عنه بخط الرجعة من مواقعهم والعدو مشرف عليهم إلا ويكونون عرضة للانكسار إذا هو كر عليهم من ورائهم ، ولا سيما إذا كان ذلك بعد فشل وتنازع كما يأتي بيانه ، فما ذكر من أن لله - تعالى - سننا في الأمم هو بيان لجميع الناس لاستعداد كل عاقل لفهمه ، واضطراره إلى قبول الحجة المؤلفة منه ، إلا أن يترك النظر أو يكابر ويعاند ، وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة فهو أنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقيقة ، ويتعظون بما ينطبق عليهم من الوقائع فيستقيمون على الطريقة ، هم الذين تكمل لهم الفائدة والموعظة لأنهم يتجنبون ويتقون نتائج الإهمال التي يظهر لهم أن عاقبتها ضارة ، فليزن مسلمو هذا الزمان إيمانهم وإسلامهم بهذه الآيات ، ولينظروا أين مكانهم من هدايتها ، وما هو حظهم من موعظتها ؟
أما إنهم لو فعلوا فبدءوا بالسير في الأرض لمعرفة أحوال الأمم البائدة وأسباب هلاكها ، ثم اعتبروا بحال الأمم القائمة وبحثوا عن أسباب عزها وثباتها ، لعلموا أنهم أمسوا من أجهل الناس بسنن الله ، وأبعدهم عن معرفة أحوال خلق الله ، ولرأوا أن غيرهم أكثر منهم سيرا في الأرض ، وأشد منهم استنباطا لسنن الاجتماع ، وأعرق منهم في الاعتبار بما أصاب
[ ص: 119 ] الأولين ، والاتعاظ بجهل المعاصرين ، فهل يليق بمن هذا كتابهم ، أن يكون من يسمونه بسمة العداوة له أقرب إلى هدايته هذه منهم ؟
كلا إن المؤمن بهذا الكتاب هو من يهتدي به ويتعظ بمواعظه ولذلك جعل الهداية والموعظة من شئون المتقين الثابتة لهم ، والمتقون هم المؤمنون القائمون بحقوق الإيمان ، كما قال في أول سورة البقرة :
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون إلخ . وقد مر وصف المتقين وذكر جزائهم في الآيات التي قبل هاتين الآيتين ، وهذا التعبير أبلغ من الأمر بالهدى والموعظة وهو يتضمن الأمر بالثبات فيه والحث على المحافظة عليه لأنه قوام التقوى التي هي قوام الإيمان ; ولذلك قال بعده :