ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين الوهن : الضعف في العمل وفي الأمر ، وكذا في الرأي ، والحزن : ألم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب ، أي تضعفوا عن القتال وما يلزمه من التدبير بما أصابكم من الجرح والفشل في أحد ولا تحزنوا على من قتل منكم في ذلك اليوم ، ويصح أن يكون هذا النهي إنشاء بمعنى الخبر ، أي إن ما أصابكم من القرح في
أحد ليس مما ينبغي أن يكون موهنا لأمركم ومضعفا لكم في عملكم ولا موجبا لحزنكم وانكسار قلوبكم ; فإنه لم يكن نصرا تاما للمشركين عليكم ، وإنما هو تربية لكم على ما وقع منكم من مخالفة قائدكم - صلى الله عليه وسلم - في تدبيره الحربي المحكم ، وفشلكم وتنازعكم في الأمر ، وذلك خروج عن سنة الله في أسباب الظفر ، وبهذه التربية تكونون أحقاء بألا تعودوا إلى مثل تلك الذنوب ، فتكون التربية خيرا لكم من عدمها بل يجب أن تزيدكم المصائب قوة وثباتا بما تربيكم على اتباع سنن الله في الحزم والبصيرة وإحكام العزيمة واستيفاء الأسباب في القتال وغيره ، وأن تعلموا أن الذين قتلوا منكم شهداء وذلك ما كنتم تتمنونه كما سيأتي ، فتذكره مما يذهب بالحزن من نفس المؤمن ( وهاتان العلتان قد ذكرتا في الآية التي بعد هذه ) وكيف تهنون وتحزنون وأنتم الأعلون بمقتضى سنن الله - تعالى - في جعل العاقبة للمتقين الذين يتقون الحيدان عن سننه ، وفي نصر من ينصره ويتبع سننه بإحقاق الحق وإقامة العدل ، والمؤمنون أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام ، أو الطمع فيما في أيدي الناس ، فهمة الكافرين تكون على قدر ما يرمون إليه من الغرض الخسيس ، وما يطلبونه من الغرض القريب ، فهي لا تكون كهمة المؤمن الذي غرضه إقامة الحق والعدل في الدنيا ، والسعادة الباقية في الآخرة ، أي إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره ، وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسننه في نظام الاجتماع بحيث صار هذا الإيمان وصفا ثابتا لكم حاكما في ضمائركم وأعمالكم فأنتم الأعلون وإن أصابكم ما أصابكم . وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن ما أصابكم يعدكم للتقوى ، فتستحقون تلك العاقبة وهي علو
[ ص: 120 ] السيادة عليهم . وقيل :
إن كنتم مؤمنين متعلق بالنهي وجملة
وأنتم الأعلون حال معترضة . أي فلا تضعفوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين ; لأن من مقتضى الإيمان الصبر والثبات والرغبة في إحدى الحسنيين - الظفر أو الشهادة - على أن مجموع الأمة موعود بالحسنيين جميعا ، وإنما يطلب إحداهما الأفراد .
وقال الأستاذ الإمام ما معناه : إن الحزن إنما يكون على ما فات الإنسان وخسره مما يحبه ، وسببه أنه يشعر أنه قد فاته بفوته شيء من قوته وفقد بفقده شيئا من عزيمته أو أعضائه ، ذلك بأن صلة الإنسان بمحبوباته من المال والمتاع والناس كالأصدقاء وذي القربى تكسبه قوة وتعطيه غبطة وسرورا ، فإذا هو فقد شيئا منها بلا عوض فإنه يعرض لنفسه ألم الحزن الذي يشبه الظلمة ويسمونه كدرا كأن النفس كانت صافية رائقة فجاء ذلك الانفعال فكدرها بما أزال من صفوها . وقد يقال هنا : لماذا نهاهم عن الوهن بما عرض لهم والحزن على ما فقدوا في "
أحد " ، وكل من الوهن والحزن كان قد وقع وهو أمر طبيعي في مثل الحال التي كانوا عليه ؟ والجواب : أن المراد بالنهي ما يمكن أن يتعلق به الكسب من معالجة وجدان النفس بالعمل ولو تكلفا ، كأنه يقول : انظروا في سنن من قبلكم تجدوا أنه ما اجتمع قوم على حق وأحكموا أمرهم وأخذوا أهبتهم وأعدوا لكل أمر عدته ولم يظلموا أنفسهم في العمل لنصرته إلا وظفروا بما طلبوا ، وعوضوا مما خسروا ، فحولوا وجوهكم عن جهة ما خسرتم ، وولوها جهة ما يستقبلكم ، وانهضوا به بالعزيمة والحزم ، مع التوكل على الله - عز وجل - ، والحزن إنما يكون على فقد ما لا عوض منه وأن لكم خير عوض مما فقدتم ، وأنتم الأعلون برجحانكم عليهم في مجموع الوقعتين - بدر وأحد - إذ الذين قتلوا منهم أكثر من الذين قتلوا منكم ، على كثرتهم وقلتكم ، أو جملة
وأنتم الأعلون معترضة يراد بها التبشير بما يكون في المستقبل من النصر ، وهما قولان للمفسرين وسواء كانت للتسلية أو للبشارة فهي مرتبطة بالإيمان الصحيح الذي لا شائبة فيه فإن من اخترق هذا الإيمان فؤاده وتمكن من سويدائه ، يكون على يقين من العاقبة ، بعد الثقة من مراعاة السنن العامة والأسباب المطردة ولذلك قال :
إن كنتم مؤمنين ومثل هذا الشرط كثير في القرآن وهو ليس للشك ، وإنما يراد به تنبيه المؤمن إلى حاله ومحاسبة نفسه على أعماله .
قال الأستاذ الإمام في الدرس : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الخميس الماضية ( غرة ذي القعدة سنة 1320 ) في الرؤيا منصرفا مع أصحابه من
أحد وهو يقول : " لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة " أي لما في الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالاحتياط ولا يغتروا بشيء بشغلهم عن الاستعداد وتسديد النظر ، وأخذ الأهبة وغير ذلك من الأسباب والسنن .