بعد هذه القاعدة - قاعدة الاعتماد على التحقق بالعلوم والنهوض بالأعمال دون الاتكال على أفراد الرجال - هدانا الله جل شأنه إلى قاعدتين أخريين فقال :
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا الآية . قال الأستاذ الإمام ما مثاله : تلك قضية وهذه قضية أخرى ، ووجه الاتصال بينهما أن المراد بتلك لوم المؤمنين على ما وقع منهم إذ بلغهم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد بهذه بيان أنه لو قتل لما كان قتله إلا بإذن الله ومشيئته ، فهو توبيخ لمن اندهش من خبر موته كأنهم بسبب زلزالهم وزعزعة عقائدهم قد جعلوا موته جناية منه ، فأذاقهم - تعالى - بهذه العبارة مرارة خطئهم وأراهم بها قبح جهلهم ; كأنه يقول : إن محمدا يدعوكم إلى الله - أي لا إلى نفسه - فلو كان هذا الموت يقع بدون إذن الله لكان الانقلاب صوابا ، ولكن إذا كان هذا الموت لا يقع إلا بإذنه - تعالى - إذ ليس لأحد في العالم سلطان يقهره ويوقع في ملكه شيئا بالكره منه ، فلا معنى لزلزلة ثقتكم عن المضي فيما كنتم عليه مع النبي في حياته ; لأن الله لم يزل حيا باقيا عليما حكيما .
قال : وفي الآية معنى آخر ، وهو أنه مادام محيانا ومماتنا بيد الله فلا محل للجبن والخوف ، ولا عذر في الوهن والضعف ، وفيها تأكيد لما تقدم بيانه في الآية التي قبلها ، وهو أن الموت لا يدل على بطلان ما كان عليه من يموت ولا على حقيته ، وذكر أن صاحب الكشاف جعل الجملة تمثيلا ، فنذكر عبارته في حلها قال :
" المعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له فيه تمثيلا ، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك ، فليس له أن يقبض نفسا إلا بإذن الله . وهو على معنيين : ( أحدهما ) تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم أن الحذر لا ينفع ، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله ، وإن خاض المهالك ، واقتحم المعارك . ( الثاني ) ذكر ما صنع الله برسوله عند غلبة العدو والتفافهم عليه وإسلام قومه له نهزة للمختلس من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل " انتهى قول الكشاف .
وقال
أبو السعود : " في الجملة كلام مستأنف سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذرا
[ ص: 137 ] من قتلهم وبناء على الإرجاف بقتله - عليه الصلاة والسلام - ببيان أن موت كل نفس منوط بمشيئة الله - إلى أن قال في قوله :
إلا بإذن الله - استثناء مفرغ من أعم الأسباب ، أي وما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس بسبب من الأسباب إلا بمشيئته تعالى ، وسوق الكلام مساق التمثيل بتصوير الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الأفعال الاختيارية التي لا يتسنى للفاعل إيقاعها والإقدام عليها بدون إذنه تعالى ، أو بتنزيل إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها في إيقاعه منزلة الإقدام على نفسه للمبالغة في تحقيق المرام; فإن موتها حيث استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر ، وفيه من التحريض على القتال ما لا يخفى " اهـ .
أقول : وقد بين صاحب الكشاف في غير هذا الموضع أن النفي في مثل هذا التعبير للشأن لا لمجرد الفعل ، وهو يفسر مثل " ما كان الله ليفعل كذا " بنحو قوله : ما صح منه وما استقام له ، أي ليس ذلك من شأنه الصحيح المعهود ولا من سننه المستقيمة المطردة ، ولكنه ( أي صاحب الكشاف ) لم يبين ذلك بقاعدة واضحة يجري عليها بتعبير يؤدي المعنى بذاته في كل موضع . وأوضح ما يقال في هذه التعبيرات وأصحه : أنه بيان لكون هذا المنفي ليس من شأن الله ولا من سننه في خلقه ، فمعنى
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ليس من شأن النفوس ولا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذنه ومشيئته التي يجري بها نظام الحياة وارتباط الأسباب فيها بالمسببات ، وسيأتي مثل هذا التعبير في آيات أخرى من هذا السياق فتؤكد أن هذا هو المعنى العام في مثلها .
وأما قوله :
كتابا مؤجلا فهو مؤكد لمضمون ما قبله ، أي كتبه الله كتابا مؤجلا ، أي أثبته مقرونا بأجل معين لا يتغير : ومؤقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ، فالمؤجل ذو الأجل ، والأجل المدة المضروبة للشيء قال - تعالى - :
وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا [ 6 : 128 ] ومنه الدين المؤجل الذي ضرب له أجل ، أي مدة يؤدى في نهايتها ، وقد يتوهم بعض أصحاب العقول المقيدة ، والأفهام الضيقة ، أن كون الموت مؤجلا بأجل محدود في علم الله ينافي كونه بأسباب تجري على سنن الله ; وليس لهذا التوهم أدنى شبهة من العقل فيرد بالدلائل النظرية ، ولا من الوجود فيفسر بالسنن الاجتماعية ، إلا أن كون الموت لا يكون إلا بالأجل أظهر من كونه لا يكون إلا مقرونا بالسبب ، فإن الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب والتعرض لعدوى الأمراض ، والتصدي لأفاعيل الطبيعة ، ثم قد يسلم في الحرب الشجاع المقدم ، ويقتل الجبان المخلف . ويفتك المرض بالشاب القوي ، من حيث تعدو عدواه الغلام القميء ، وتغتال فواعل الحر والبرد الكهل المستوي ، وتتجاوز
[ ص: 138 ] عن الشيخ الضعيف ، ولكل عمر أجل ولكل أجل قدر ، والأقدار هي السنن التي بها يقوم النظام ، والحكم فيها مرتبطة بالأحكام ، وإن خفي بعضها على بعض الأفهام .
هذه هي القاعدة الأولى في الآية . وأما الثانية فهي قوله - تعالى - :
ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وإننا نذكر في تفسير العبارة صفوة ما قالوه ثم نبين القاعدة . قالوا : إنها تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم
أحد فتركوا موقعهم الذي أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزومه . وإن معناها أن من قصد بعمله حظ الدنيا أعطاه الله شيئا من ثوابها ، ومن قصد الآخرة أعطاه الله حظا من ثوابها . وصرح
الرازي بأنها في معنى حديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=918639إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " الحديث المشهور .
وقال الأستاذ الإمام : هذه قضية أخرى وفيها وجهان : ( الوجه الأول ) أنها رد لاستدلال من استدل بما حل بالمسلمين على أن ما هم عليه غير الحق ، فهي من هذا الوجه فرع من فروع قوله :
قد خلت من قبلكم سنن [ 3 : 137 ] فهو يقول : إن لنيل ثواب الدنيا سننا ولنيل ثواب الآخرة سننا ، فمن سار على سنن واحدة منهما وصل إليها ; فإذا كان المشركون قد استظهروا على المسلمين في هذه المرة فلأنهم طلبوا بعملهم الدنيا وأخذوا له أهبته من حيث قد قصر المسلمون في اتباع السنن في ذلك بمخالفة الرسول كما تقدم . ( والوجه الثاني ) أنه يقول لأولئك الذين ضعفوا وفشلوا وانقلبوا على أعقابهم : ما الذي تريدونه بعملكم هذا ؟ إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فالله لا يمنعكم ذلك ، وما عليكم إلا أن تسلكوا طريقه ، ولكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يدعوكم إلى خير ترون حظا منه في الدنيا والمعول فيه على ما في الآخرة . فالمسألة معكم بين أمرين : إرادة الدنيا وإرادة الآخرة ، كل يريد أمرا ولكل أمر سنن تتبع ، ولكل دار طريق تسلك .
أقول : وسيأتي في هذا السياق قوله - تعالى - :
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة وهو يؤيد الوجه الثاني مما أورده الأستاذ الإمام وفي معناه قوله - تعالى - :
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من [ 42 : 20 ] . وقد تقدم لهذا البحث نظير في تفسير قوله - تعالى - :
فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا [ 2 : 200 ] إلخ . وفيه بيان أن من يطلب الدنيا وحدها ولا يعمل للآخرة عملها فليس له في الآخرة من خلاق ، وأن من هدي الإسلام أن يطلب المرء خير الدنيا وخير الآخرة ويقول :
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة فالإنسان يطلب ويريد بحسب سعة معرفته ، وعلو همته ، ودرجة إيمانه ، وله ما يريد كله أو بعضه بحسب سنن الله وتدبيره لنظام هذه الحياة . وفي سورة الإسراء تفصيل وتقييد في هذه المسألة
[ ص: 139 ] قال - تعالى - :
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 : 18 - 21 ] ، ولا تنسين التقاليد الشائعة قارئ هذه الآيات عن سنن الله التي أثبتها في كتابه ، فيظن أن عطاءه - تعالى - وتفضيله لبعض الناس على بعض يكون جزافا ، بل الإرادة تجرى على السنن التي اقتضتها الحكمة
وكل شيء عنده بمقدار [ 13 : 8 ] ولإرادة الإنسان دخل في تلك السنن والمقادير ; ولذلك قال : من كان يريد ومن أراد فاعرف قيمة إرادتك واعرف قبل ذلك قيمة نفسك ، فلا تجعلها كنفوس الحشرات التي تعيش زمنا محدودا ، ثم تفنى كأن لم تكن شيئا مذكورا .
إنك قد خلقت للبقاء ولك في الوجود طوران : طور عاجل قصير وهو طور الحياة الدنيا ، وطور آجل أبدي وهو طور الحياة الآخرة ، وسعادتك في كل من الطورين تابعة لإرادتك وما توجهك إليه من العمل في حياتك ، فأعمال الناس متشابهة ، ومشقتهم فيها متقاربة ، وإنما يتفاضلون بالإرادات والمقاصد ; لأنها هي التي تكون تارة علة وتارة معلولا لطهارة الروح وعلو النفس وسمو العقل ورقة الوجدان ، وهي هي المزايا التي يفضل بها إنسان على إنسان .
يحارب قوم حبا في الربح والكسب ، أو ضراوة بالقتل والفتك ; فإذا غلبوا أفسدوا في الأرض ، وأهلكوا الحرث والنسل ، ويحارب آخرون دفاعا عن الحق ، وإقامة لقوانين العدل ، فإذا غلبوا عمروا الأرض ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فهل يستوي الفريقان ، إذا استوى في البداية العملان ! وهما في القصد والإرادة متباينان ؟
يكسب الرجل طلبا لللذات ، وحبا في الشهوات ، فيغلو في الطمع ، ويوغل في الحيل ، ويأكل الربا أضعافا مضاعفة ، حتى يجمع القناطير المقنطرة ، فإذا هو يمنع الماعون ، ويدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين ، ولهو إذا سئل البذل في المصالح العامة أشد بخلا ، وأكز يدا وأقبض كفا ، ويكسب الرجل طلبا للتجمل في معيشته وحبا للكرامة في قومه وعشيرته ، فيجمل في الطلب ، ويتحرى الحلال من الربح ، ويلتزم الصدق والأمانة ، ويتوقى الغش والخيانة ، ثم هو ينفق من سعته فيواسي البائس الفقير . ويعين العاجز والضعيف ، وتكون له اليد في بناء المدارس والمعابد والمستشفيات والملاجئ ، فهل يستوي الرجلان وهما في الثروة سيان ؟ وفي ظاهرة العمل متشابهان أن يفضل أحدهما الآخر بحسن الإرادة ؟
[ ص: 140 ] الإرادة تصغر الكبير وتكبر الصغير . وترفع الوضيع وتضع الرفيع ، وبها تتسع دائرة وجود الشخص حتى تحيط بكرة الأرض ، بل تكون أكبر من ذلك بما يتبوأ من منازل الكرامة في عالم المعقول والأرواح ، وإذا كان يريد بعمله دار البقاء فإن وجوده يكون كبيرا بحسب كبر إرادته وواسعا بسعة مقصده ; وبذلك تعلو نفسه على نفوس من أخلدوا إلى الشهوات وكأن حظهم من علمهم كحظ الحشرات وغيرها من الحيوانات : أكل وشرب وسفاد وبغي من القوي على الضعيف .
قس على هذا وجود من يريد بعمله القرب من الله والتخلق بأخلاقه والتحقق بتجليات أسمائه وصفاته ، القرب من الواسع العليم ، الخلاق الحكيم ، الرحمن الرحيم بسعة القلب ، وبسطة العلم ، وإقامة النظام والحكمة ، ونصب ميزان العدل وبسط بساط الرحمة ، ألا تراه يكون أشرف وجود بشري وأعلاه بحسب إرادته وسنن الله ؟
لست بهذا الرمز إلى مكانة إرادة البر من تصريف أعمالهم وتوجيهها إلى سعادتهم أو شقائهم بخارج عن موضوع تفسير الآية الكريمة ; فإن
رب العزة قد جعل عطاءه للناس معلقا على إرادتهم ولا يقدر هذا حق قدره إلا قليل منهم ، فهم في حاجة إلى مثل هذا التذكير بل إلى أكثر منه .
إذا فقهت معنى قوله :
وسنجزي الشاكرين أي الذين يعرفون نعمة الله عليهم بقوة الإرادة ويستعملونها فيما يعرج بهم إلى مستوى الكمال ، فتكون أعمالهم صالحة رافعة لنفوسهم ونافعة لغيرهم . وأبهم هذا الجزاء لتعظيم شأنه .
قال الأستاذ الإمام :
كأنس بن النضر وأمثاله الذي جاهدوا وصبروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظهم قوة إراداتهم ، فكانوا السبب في انجلاء المشركين عن المسلمين . وخصهم بالذكر الذي يعينه الوصف تنويها بهم ووعدا لهم بالجزاء ، وهو من التفصيل لإجمال من يريد الآخرة .