يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون [ ص: 159 ] لما بين الله - سبحانه - وتعالى للمؤمنين أن هزيمة من تولى منهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم فزلوا أرادا أن يحذرهم من مثل تلك الوسوسة التي أفسد الشيطان بها قلوب الكافرين ، فقال
: يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا أي لا تكونوا مثل هذا الفريق من الناس وهم الذين كفروا وقالوا لأجل إخوانهم أو في شأن إخوانهم في النسب أو المودة والمذهب ، إذا هم ضربوا في الأرض - أي سافروا فيها للتجارة والكسب - فماتوا ، أو كانوا غزى أي غزاة - وهو جمع لغاز من الجموع النادرة ومثله عفى جمع عاف - سواء كان غزوهم في وطنهم أو في بلاد أخرى فقتلوا : لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، أي ما مات أولئك المسافرون ، وما قتل أولئك الغازون ، وقرن هذا القول بالكفر مشعر بأن مثله لا ينبغي أن يصدر عن مؤمن ; لأنه إنما يصدر من الكافرين وبيان ذلك من وجهين .
( أحدهما ) أن هذا القول مخالف للمعقول مصادم للوجود ، فإن من مات أو قتل فقد انتهى أمره وصار قول ( لو كان كذا ) عبثا لأن الواقع لا يرتفع ، والحسرة على الفائت لا تفيد ، ومن شأن المؤمن أن يكون صحيح العقل سليم الفطرة ; ولذلك جعل - سبحانه - الخطاب في كتابه موجها إلى العقلاء ، وبين أن أولي الألباب هم الذين يعقلونه ويتذكرون به ويقبلون هدايته ، وقال فيمن لا إيمان لهم :
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [ 7 : 179 ] .
( ثانيهما ) أن هذا القول يدل على جهل قائله بالدين أو جحوده ، فإن
الدين يرشد إلى تحديد الآجال وكونها بإذن الله كما تقدم قريبا في تفسير قوله - تعالى - :
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 : 145 ] فارجع إليه .
والمشهور في كتب التفسير المتداولة أن المراد بالذين كفروا المنافقون الذين تقدم ذكرهم في الآيات . وقال الأستاذ الإمام : يقول بعض المفسرين: إن هذا القول وقع من بعض الكفار فعلا ، فنهى الله المؤمنين أن يقولوا مثله ، والمختار أن هذا قول لا يصدر إلا عن كافر فلا يليق مثله بالمؤمنين ، وقد سئل في هذا المقام عن مسألة القضاء والقدر فقال : إنني أجيب السائل بمثل ما أجبت به من سألني عن ذلك من غير المسلمين ، إذ قال : إن هذه العقيدة هي السبب في تأخر المسلمين عن غيرهم من الأمم ، فإنهم ينكرون الأسباب ولا يحفلون بها ، فقلت له : إن ما ينتقد على المسلمين من ذلك لا يرجع منه شيء إلى الإسلام الخالص ، فما قرره فهو الحق الواقع في نفسه الذي لا يمكن لمؤمن ولا ملحد إنكاره . وبين ذلك بذكر أن
القضاء عبارة
[ ص: 160 ] عن تعلق العلم الإلهي بالشيء ، والعلم : انكشاف لا يفيد الإلزام ،
والقدر : وقوع الشيء على حسب العلم ، والعلم لا يكون إلا مطابقا للواقع وإلا كان جهلا ، أو الواقع غير واقع وهو محال ، وهنا أمران كل منهما ثابت في نفسه : أحدهما أن الله خالق كل شيء ، وثانيهما أن هذا النوع من المخلوقات الذي يسمى " الإنسان " يعمل أعماله بقصد واختيار ولكنه غير تام القدرة ولا الإرادة ولا العلم ، فقد يعزم على العمل ثم تنفسخ عزيمته لتغير علمه بالمصلحة أو لعجزه عن تنفيذ ما عزم عليه مع بقاء علمه بأنه هو الموافق للمصلحة وذلك لمرض يلم به أو مانع يحول دون ما أراده ، وهذا يقع مع الناس كل يوم ولكنهم قد يغفلون عنه ويغترون بما ينفذ من عزائمهم ، فيظنون أن الإنسان يفعل ما يشاء . قال : جاء
مصر رجلان من الأوربيين الذين جرت عادة أمثالهم بأن يحددوا مدة سفرهم ومقامهم في كل بلد يزورونه قبل الشروع في السفر ، وكان مما كتباه في برنامج سفرهما أنهما يقيمان
بمصر ستة أيام ، فمرض أحدهما فاضطر إلى أن يمد في مدة السفر بغير حساب . وهكذا شأن الإنسان يعزم فيعمل ، أو يعجز أو يموت قبل التمكن من العمل ، فاختياره في أعماله وقدرته عليها ومعرفته الأسباب وقيامه بها كل ذلك له حدود لا يتجاوزها ، فهو لا يحيط علما بأسباب الموت ولا يقدر على اجتناب كل ما يعمل من أسبابه ، وما كل سبب يتعرض له يقع ، فجميع الذين يصطلون بنار الحرب يعرضون أنفسهم للقتل ، وقد يسلم أكثرهم ويقتل أقلهم . أقول : ويؤخذ من هذا كله أمران : أحدهما أن الشيء متى وقع يعلم بعد وقوعه أنه لم يكن منه بد . وثانيهما أن الإنسان إذا كان يؤمن بأن لله - تعالى - عناية به وقد يلهمه - إذا هو توجه إليه - علم ما يجهل من أسباب سعادته ويوفقه إلى ما يعجز عنه من الأسباب بمحض حوله وقوته ، فإنه بهذا الإيمان يكون مع أخذه بالأسباب أنشط في العمل عند عجزه عنها بعد اليأس والكسل .
ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم أي لا تكونوا يا معشر المؤمنين مثل أولئك الكافرين في اعتقادهم ، ولا تقولوا مثل قولهم الناشئ عن ذلك الاعتقاد ; ليكون ذلك منكم سببا لتحسرهم وغمهم بحسب سنة الله - تعالى - ; فإنهم إذا رأوكم أشداء أقوياء لا يضعفكم فقد من فقد منكم ، ولا يقعد بكم عن القتال خوف أن يصيبكم ما أصاب أولئك الذين قتلوا فإنهم يحزنون ويتحسرون ، هذا وجه في التعليل متعلق بالنهي نفسه ، وملخص المعنى عليه : لا تكونوا مثلهم ; لأجل أن يتحسروا بامتيازكم عليهم إذ يضعفون بفقد من يفقد منهم وأنتم لا تضعفون ، وفيه وجه آخر متعلق بقول الذين كفروا باعتبار الاعتقاد الفاسد الذي نشأ عنه ، والمعنى : لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا ; ليكون أثر ذلك القول مع الاعتقاد وعاقبته
[ ص: 161 ] حسرة في قلوبهم على من فقد من إخوانهم ، ويزيدهم ضعفا ويرثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت ، فإنكم إذا كنتم مثلهم في ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم ، وتضعفون عن القتال كما يضعفون ، فلا يكون لكم امتياز عليهم بالبصيرة النيرة التي يرى صاحبها أن الذي وقع هو ما لا بد منه فلا يتحسر عليه ، ولا بالإيمان الذي لا يزيد ذلك صاحبه إلا إيمانا وتسليما .
والله يحيي ويميت أي والحقيقة أن الله - تعالى - يحيي من يشاء بمقتضى سننه في بقاء أسباب الحياة وإن طوى بالأسفار بساط كل بر ، ونشر شراع كل بحر ، وخاض معامع الحروب ، وصارع الأهوال والخطوب . ويميت من يشاء بمقتضى سننه في أسباب الموت وإن اعتصم في الحصون المشيدة ، وحرس بالجنود المجندة ،
والله بما تعملون بصير فلا يخفى عليه ما تكنون في أنفسكم من الاعتقاد ، وما يؤثر في قلوبكم من الأقوال والأحوال ، فاحرصوا على أن يكون ترككم لأقوال الكفار ناشئا عن طهارة نفوسكم من وساوسهم .
وقال الأستاذ الإمام : أي إن
الحياة والممات بيد الله - تعالى - وهو ممد الموجودات كلها بما يحفظ وجودها والعالمين بحياتهم وموتهم فلا يليق بالعاقل أن يقول لمن أماته : لو كان في مكان كذا لما مات بل كانت حياته أطول ( قال ) : وهناك علة أخرى من علل النهي عن مثل ذلك القول وهي ما أفاده قوله - تعالى - :
ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون وبيان ذلك أن حظ الحي من هذه الحياة هو ما يجمعه من المال والمتاع الذي تتحقق به شهواته وحظوظه ، وما يلاقيه من يقتل أو يموت في سبيل الله من مغفرته - تعالى - ورحمته ، فهو خير له من جميع ما يتمتع به في هذه الدار الفانية ، والموت في سبيل الله هو الموت في أي عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان لله ، أي سبيل البر والخير التي هدى الله الإنسان إليها ويرضاها منه . وقد يموت الإنسان في أثناء الحرب من التعب أو غير ذلك من الأسباب التي يأتيها المحارب في أثنائها ، فيكون ذلك من
الموت في سبيل الله - عز وجل - .
أقول : وهذا هو المقصود هنا أولا وبالذات ; لأن السياق في الحرب ، ولذلك قدم ذكر القتل على الموت ، فإن القتل هو الذي يقع كثيرا في الحرب والموت يكون فيها أقل ، فذكره تبعا بخلاف الآية الآتية .
وحاصل معنى الآية : أن رب العزة يخبرنا مؤكدا خبره بالقسم بأن من يقتل في سبيله أو يموت فإن ما ينتظره من مغفرة تمحو ما كان من ذنوبه وسيئاته ورحمة ترفع درجاته خير له مما يجمع الذين يحرصون على الحياة ليتمتعوا بالشهوات واللذات ، إذ لا يليق بالمؤمنين الذين يؤثرون مغفرة الله ورحمته الدائمة على الحظوظ الفانية أن يتحسروا على من يقتل منهم
[ ص: 162 ] أو يموت في سبيل الله ، ويودوا لو لم يكونوا خرجوا من دورهم إلى حيث لقوا حتفهم فإن ما يلقونه بعد هذا الحتف خير مما كانوا فيه قبله . وبهذا الذي بينته تظهر نكتة الخطاب في أول الآية والغيبة في آخرها ، وكذا تنكير مغفرة ورحمة . ثم قال - تعالى - :
ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون قالوا : إن الموت والقتل هنا أعم مما في الآية السابقة ; لأن كل من يموت ومن يقتل في سبيل الله ، وهي طريق الحق والخير ، أو في سبيل الشيطان ، وهي طريق الباطل والشر ، فلا بد أن يحشر إلى الله - تعالى - دون غيره فهو الذي يحشرهم بعد الموت في نشأة أخرى ، وهو الذي يحاسبهم ويجازيهم ، وهاهنا قد قدم ذكر الموت لأنه أعم من القتل وأكثر .
قال الأستاذ الإمام . في
معنى الحشر إلى الله - تعالى - : إنه ليس لله - تعالى - مكان يحصره فيحشر الناس ويساقون إليه ، ولكن الإنسان يغفل في هذه الدار عن الله فينسى هيبته وجلاله ، وينصرف عن استشعار عظمته وسلطانه ; لاشتغاله بدفع المكاره عن نفسه وجلب اللذات والرغائب لها . وأما ذلك اليوم الذي يحشر له الناس فلا اشتغال فيه بتقويم بنية ، ولا التمتع بلذة ، ولا مدافعة عدو ، ولا مقاومة مكروه ، ولا بتربية نفس ، ولا تنزيه حس ، وإنما يستقبل فيه كل أحد ما يلاقيه من الله - تعالى - جزاء على عمله لا يشغله عنه شيء ، فيكون بذلك راجعا عن كل شيء كان فيه إلى الله - تعالى - محشورا مع سائر الناس إليه لا يشغله عنه شيء ( قال ) وإذا كان مصير كل من يموت أو يقتل إلى الله - تعالى - مهما كان سبب موته أو قتله ومهما طالت حياته فالاشتغال بذكر سبب هذا المصير ومبدئه لا يفيد ، وإنما الذي يفيد هو الاهتمام بذلك المستقبل والاشتغال بالاستعداد له ، وذلك دأب العقلاء من المؤمنين .